شهدت الفترة الأخيرة تصعيداً ملحوظاً في حدة التوتر علي الجبهة الشمالية لإسرائيل، وكما كان عليه الحال دائما تمحور موضوع التوتر حول تعاظم القدرة النارية لحزب الله، ومع ذلك فإن ما تم الكشف عنه مؤخراً يكتسب أهمية كبيرة في ضوء مجموعة من العوامل يمكن إجمالها فيما يلي: 1- التسابق المحموم بين أطراف معادلة الصراع والمواجهة علي تحقيق توازن الردع في ضوء ما أظهرته حرب لبنان الأخيرة عام 2006 من تقدم لحزب الله في هذا الصدد، ففي حين لا تكف الآلة العسكرية الإسرائيلية عن تحديث منظومتها الدفاعية ضد الصواريخ، من خلال نظام "القبعة الحديدية"، جاءت تصريحات أمين عام حزب الله لتؤكد امتلاكه قوة الردع، ومن أحدث الأمثلة علي ذلك تلك التي أوضحت أن حركته تمتلك القدرة علي ضرب مطار بن جوريون إذا ما تم قصف مطار بيروت. وفي هذا السياق يمكن فهم المخاوف الإسرائيلية من تلاشي تفردها بامتلاك القدرة النووية العسكرية في المنطقة، سواء في مواجهة ما يتم تقديمه علي أنها طموحات نووية إيرانية من جانب، أو إزاء احتمال استخدام القوي المناوئة لإسرائيل لصواريخ يبلغ مداها مئات الأميال حاملة طنا من الرؤوس المتفجرة قد تكون كيمائية، كشفت الصحافة الإسرائيلية مؤخرا عن أنه قد تم نقلها من سوريا إلي حزب الله قبيل إثارة ما أطلق عليه "أزمة صواريخ سكود". 2- أن هذا التصعيد جاء في أعقاب الضربات الإسرائيلية الأخيرة للجهود الرامية لإطلاق مفاوضات السلام في المنطقة وما أظهرته القيادة الإسرائيلية من تشدد واضح حول ملامح أية تسوية مستقبلية في المنطقة، وقد كانت المواقف التي اتخذتها القيادة السورية قبيل وأثناء قمة سرت الأخيرة تصب جميعا في اتجاه عدم الثقة في النوايا الإسرائيلية، والسعي لحشد الأطراف العربية وراء خيار المقاومة حتي وإن كان ذلك بالتوازي مع التلويح بإمكانية التفاوض الجاد. وفي هذا السياق يمكن النظر إلي الضجة المثارة حاليا حول ما يشاع عن تزويد سوريا لحزب الله بصواريخ سكود، بأنها تصب في خانة مسعي يعيد طرح مقولة إسرائيل المهددة بالتدمير من قبل جيرانها، وهي المقولة التي تلاشت مؤخرا لصالح أخري أبرزت الدولة العبرية علي أنها دولة فوق القانون قادرة علي أن تتخذ ما تشاء من مواقف والقيام بما تريد من اعتداءات دون أن تكون خاضعة للعقاب أو حتي المحاسبة. 3- أن التهديدات الإسرائيلية التي رافقت هذا التطور خاطبت علي وجه التحديد المصدر المحتمل للسلاح وليس مستقبله؛ حيث تركز الحديث علي سوريا التي تم تصويرها علي أنها "تلعب لعبة مزدوجة فهي تتحدث عن السلام وتزود حزب الله بصواريخ سكود لتهديد إسرائيل". وفي هذا الخصوص يجدر التذكير بأن التوترات الأخيرة لا تمثل تطورا منعزلا وإنما حلقة في سلسلة طويلة كانت أبرز حلقاتها المناورات العسكرية الإسرائيلية في صحراء النقب لمحاكاة حرب علي سوريا في مطلع فبراير الماضي، وهي ما اعتبرتها القيادة السورية آنذاك مؤشرا علي دفع إسرائيل المنطقة إلي حرب جديدة. وقد تفرد وزير الخارجية الإسرائيلية بإطلاق التهديد الأكثر صراحة ووضوحا آنذاك؛ حيث خاطب الرئيس السوري مباشرة قائلا: لن تخسر فقط الحرب المقبلة، أنت وعائلتك ستخسرون السلطة، لا أنت ولا عائلة الأسد ستبقي في السلطة". 4- أن توقيت إثارة هذه الملف قد تزامن بشكل لافت للنظر مع حدوث انفراج ملحوظ في العلاقات الأمريكية-السورية، والذي بدأ بزيارات رسمية رفيعة المستوي وتوج باتخاذ واشنطن لقرار الرجوع عن موقفها الخاص بسحب سفيرها في دمشق عام 2005، وترشيح روبرت فورد لتولي هذا المنصب، وهو ما كان مجلس الشيوخ بصدد بحث المصادقة عليه لحظة طرح هذا الملف. وقد دفع ذلك البعض إلي تحديد الهدف الإسرائيلي المباشر من وراء ذلك في عرقلة مسيرة تطبيع العلاقات بين البلدين في ظل استمرار اتخاذ دمشق لمواقف مناوئة لإسرائيل ودعمها الملحوظ لخيار المواجهة معها ورفضها الواضح تقديم أية تنازلات تتعلق بالأرض العربية المحتلة من قبلها. 5- أنه لا يمكن تناول هذه "الأزمة" بشكل منفصل عن طبيعة العلاقات بين إسرائيل من جانب، وما تطلق عليه محور الشر في المنطقة من جانب آخر، والذي يتكون وفقا للرؤية الإسرائيلية من إيران (العقل المدبر) وسوريا (العمود الفقري) وكل من حزب الله وحركة المقاومة الإسلامية حماس كذراعين منفذين. ومن هذا المنطلق فإن المعطيات الجديدة، إن صحت، تعتبر حلقة في مسلسل إعداد المسرح لحرب تزايد الحديث عنها مؤخراً، تكون فيها المنشآت النووية الإيرانية الهدف الرئيسي، بما يعنيه ذلك من ضرورة تحييد مصادر التهديد الأخري المحتملة من وجهة نظر إسرائيلية. وفي المقابل، يمكن تفسير هذا التطور، في حالة تأكده، علي أنه مسعي لوأد أية توجه عسكري إسرائيلي أو أمريكي علي الجبهة الشمالية خاصة ضد إيران، من خلال تزويد "قواعد متقدمة" بقدرات متطورة قادرة علي الرد السريع والموجع والفوري بما يترك للنظام الإيراني القدرة علي استيعاب الضربة الأولي وتنفيذ الضربات الانتقامية المباشرة. 6- ولعل التحليل السابق يوضح أسباب القلق الأمريكي إزاء هذا التطور النوعي حتي وإن لم تثبت صحته حتي الآن، وإذا كان الرئيس الأمريكي قد سبق له أن عبر لنظيره اللبناني في منتصف ديسمبر الماضي خلال لقائهما في البيت الأبيض عن قلقه إزاء تهريب السلاح بكميات كبيرة إلي حزب الله في لبنان، معتبرا تلك الأسلحة تهديدا لإسرائيل، فإن البيت الأبيض قد زاد علي ذلك في منتصف إبريل الحالي بالتعبير عن "قلق متزايد" من مزاعم إن صحت تعرض لبنان لخطر جسيم. وبغض النظر عن صحة الرواية الإسرائيلية من عدمها، فإن ما يطلق عليه "أزمة صواريخ سكود" تأتي لتؤكد مجدداً علي مجموعة من الحقائق: - أن المواقف الإسرائيلية المتشددة وتصرفاتها الاستفزازية علي الأرض وعرقلتها المستمرة لمساعي التسوية، لا يمكن إلا أن تصب في خانة التشدد من قبل محيطها الجغرافي، الذي تراجع عن رفضه المبدئي لوجودها ككيان دخيل علي المنطقة، ليقبل بها بشروط تتماشي مع مبادئ الشرعية الدولية وتتصل بإعادة الحقوق لأصحابها. - أن خلط البعد الإيراني بالبعد العربي لا يصب في نهاية المطاف في مصلحة إسرائيل، وإن ساعد في المرحلة الحالية في عدم تركها وحيدة في مواجهة الأخطار المحيطة بها، فمع وجود طرح عربي يطالب بفتح حوار بناء مع إيران، بما يعنيه ذلك إذا ما تحقق استبعاد إسرائيل من منظومة الشرق الأوسط الكبير التي كانت أول من دعا إليها، يصبح موقفها أكثر ضعفا مما كانت عليه في مايو 1948 يوم إعلان استقلالها. - أن تأكيد الرئيس أوباما في مؤتمره الصحفي منتصف إبريل الجاري علي أن حل الصراع الذي طال أمده في الشرق الأوسط فيه مصلحة حيوية لأمن الولاياتالمتحدة، يجب أن تتم ترجمته علي أرض الواقع في شكل تحركات ملموسة تعيد للولايات المتحدة مصداقيتها من جانب، وتجنب المنطقة حربا جديدة قد تضطر الولاياتالمتحدة لأن تكون طرفا فيها بما يعنيه ذلك من انعكاسات سلبية علي مصالحها فيها من جانب آخر.