لعل أستاذنا سقراط كان مخطئا عندما قال لأحد تلاميذه الصامتين "تكلم حتي أراك" ما قاله سقراط قبل الميلاد لا يصلح لزماننا..وبعدين هو كان عايزو يتكلم ليه؟ ألم تكن هناك علي أيامه وزارة للبيئة تحذره من التلوث السمعي؟ وربما كان الفيلسوف سقراط معذورا لأنه لم يعش زماننا ولم ينجح في التنبؤ به وإلا كان له رأي آخر يختلف كليا عما قاله؛ فسقراط لم ير هذه التفاهات التي نسمعها ويطلب منا أن نرد عليها ونشارك فيها، وسقراط لم يسمع بالحكمة الخالدة التي تحكي عن أن الإنسان يحتاج إلي عامين لتعلم الكلام ويحتاج إلي بقية عمره ليتعلم كيف يصمت والصمت، كما أفهمه - ليس أبدا لغة احتجاج ولكنه احترام للذات في معظم الأحيان عن المشاركة في الغوغائية والهرطقات الكلامية الجعجعونية التي تنتشر في زماننا، حتي أصبح كل الناس خطباء، ونصف الناس زعماء، في حين أن هرطقاتهم لا تقدم ولا تؤخر. وفي حياتي العملية رأيت نموذجين للصمت الايجابي الأول بطلته هي الرائدة الصحفية الراحلة أماني فريد - رحمها الله - التي كانت تقول لي إنها تواجه ما لا يعجبها من الكلام بقولها: "أفندم".. والمعني أنها لا تريد أن تشارك في كلام فارغ فهي لم تسمع، وبالتالي لم تنطق..وكنت بالفعل أراها وهي تحمي نفسها بهذه الكلمة السحرية الساحرة..فهي قررت أن تسمع فقط ما تجد نفسها راغبة في الرد عليه! النموذج الثاني كان لأستاذي الكبير رجاء النقاش الذي كنت أرجوه أن يرد علي وساطتي لصحفية زميله تريد أن تجري معه حوارا وكان هو يرجوني بخجله أن أقول أنني نسيت أن أطرح عليه الطلب.. يعني أقول: أفندم! وقد سألتني مراسلة القناة الأولي السعودية المثقفة - التي لاقت ربها الشهر الماضي في حادث سيارة - هايدي مرعي وأعجبني جدا اختيارها لموضوع تقريرها، وهذا ليس غريبا علي فتاة مثقفة اتعلمت صح، سألتني: هل تؤمن بالصمت لغة للحوار فأومأت برأسي بما يعني نعم يعني، فقالت إذا تكلم عن قناعتك أمام الكاميرا ..فأشرت برأسي يمينا ويسارا.. بما يعني لا..إيمانا مني بأهمية السكوت؛ واقتناعا من شخصي بأننا لا ينقصنا أن نضيف أعدادا جديدة للمتكلمين فما أكثرهم.. ولكننا سنكسب كثيرا إذا نجحنا في اكتشاف مواطن يؤدي واجبه وهو صامت! ست الحبايب أدعو "الزمل" المؤلفين إلي الاحتماء بجدران أقرب مقهي بلدي؛ ليراقبوا الناس، مش عيب، ليتعرفوا علي أفكارهم وأقوالهم وإيفيهاتهم، بدلا من اللغة الغريبة التي يتكلم بها نجوم المسلسلات التليفزيونية هذه الأيام.. مش مصدق.. اسمع دي: كلما دق صوت موبايل أحد البسطاء علي المقهي، نهض بعض الشباب خفيفي الدم، ليصافحوا الرجل بحرارة بالغة، قائلين له كمن يهنئونه: ربنا يخليهالك.. دي دعوتها بالدنيا.. في البداية لم يفهم الرجل، وزاد اندهاشه تكرر هذا الأمر عدة مرات، ومن الواضح أنه كانت هناك " نحتاية يتم الاتفاق عليها مع زبون لذا تكرر دق الهاتف، ولكن ما هو الرابط بين رن التليفون وبين التهنئة والدعاء لمجهول؟ أدرك متأخرا أن نغمة الموبايل، كانت موسيقي لأغنية "ست الحبايب" للست فايزة أحمد. ربنا يخليهالك..ست الحبايب..يا حبيبة.. يا حبيبة. نزل من بيته مبكرا علي غير المعتاد، قاصدا مهمة عمل عاجلة.. استرعي انتباهه أحد الأشخاص مفترشا الأرض أمام بيت جيرانه، ويمسك بعجلة سيارة أحد الجيران.. يبدو منهمكا في عمله..لم يعره الشاب اهتماما..إلا من تمتمة أضافها لتخترق صمت الصباح المبكر.. كانت تمتمته مسموعة له بوضوح تام: توكالنا عليك يارب. تصور أنه حارس جديد، أو واحد من أولئك الذين يجعلون رزقهم تنظيف السيارات أو حتي تلويثها، كمهنة انتشرت هذه الأيام؛ فهو لم يلمح ملامح وجهه قبل اليوم.. ألقي عليه تحية الصباح.. ورد عليه الشاب بغير إكتراث.. إشطة يا عمي.. وصل إلي مفترق الشارع.. ثم عاد بعد أن تذكر نسيانه لموبايله..وجد الشاب وقد اختفي إلي حال سبيله.. و"جنوط السيارة الاسبور".. قد اختفت معه.