يسعد الكاتب حين تثبت مجريات الأمور توقعاته، لكنني لست كذلك، بينما أري (ظاهرة الدكتور البرادعي) تأخذ طريقها إلي الأفول.. وتفقد قدرتها علي الإدهاش.. لاسيما أن عددًا من الكتابات قد بدأت في التحول عن تمجيده المتواصل.. لتنتهج خطًا انتقاديًا تقييميًا.. في ذات الوقت الذي تتصاعد فيه الخلافات من حوله وفي دائرة المحيطين به.. هذا توقع آخر سجلته في «روزاليوسف» قبل ما يزيد علي اربعه أسابيع. لقد التقي عدد من الأدباء البرادعي في منزله في (كومبوند جرانة)، حيث قال لهم كلامه المعتاد، وإن فاجأ بعضهم بحديث عن الخلافات فيما بين من حوله، وسعي كل منهم لمواقع رئاسات اللجان التي شكلها، وهو أمر طبيعي وتكراري بين هؤلاء.. لكن المدهش أن البرادعي قال لضيوفه الأدباء: (أنا زهقت). هذه العبارة الملولة المحبطة تعني أن السياسي السائح، أو المغترب المنعزل، قد اصطدم بالواقع أخيرًا، وأدرك بعضًا من معضلات هذا البلد.. الذي يتطلب قدرة مهولة لإدارته لا تليق بمجرد (مدير) ناجح.. وقد كتبت هنا من قبل في مواصفات رئيس مصر أنه يجب أن يكون زعيمًا مختلفًا وليس مديرًا كفئًا.. فالوطن ليس شركة أو وكالة.. هذه أمة تبدو سلسة.. هينة.. طيعة.. ولكنها عامرة بالتنوع والتعقيد. وفي مقالي يوم السبت المقبل في «روزاليوسف» (المجلة) بعنوان: (علي مسرح مصر) سوف أعلق تفصيلاً علي ما جري للمصريين المبعدين من الكويت.. بسبب اجتماع تأييد البرادعي في مقهي سلطانة، علي ضفاف الخليج، ولكن هذا لا يمنع من أن أقتطع من المقال عبارة تقول: (إن البرادعي تسبب في فقدان عدد من المصريين فرص عمل مميزة كانوا يتمتعون بها.. في ذات الوقت الذي لم يقترح فيه عليهم حتي الآن برنامجًا أو سياسات لعلاج مشكلة البطالة). وبالأمس، كتب الزميل سليمان جودة في (المصري اليوم)، تلك الجريدة التي تصدرت تسويق (ظاهرة البرادعي)، حيث انتقد بعنف غير مسبوق أن البرادعي يقول: إنه ليس لديه برنامج، ووجه له لومًا شديدًا لأنه قال عبارة غريبة بالفعل، وهي: (البرنامج يختاره الشعب).. أي أن البرادعي ترفع حتي عن اقتراح برنامج.. وإن كنت لا أحسب ذلك ترفعًا.. بل عدم قدرة.. أو عدم رغبة في الاصطدام بالحقائق. وفي يوم الاثنين الماضي كتب ياسين عزالعرب مقالاً في الجريدة الأخري التي ابتدعت من الأصل (ظاهرة البرادعي) أي جريدة (الشروق)، يتساءل فيه، وإن أجاب فعلاً، عن الأسباب التي أدت إلي تآكل الإجماع الحزبي حول البرادعي، وهو مقال رصين ومنهجي، يصل فيه الأستاذ ياسين إلي أن البرادعي حين أبدي عددًا من الملاحظات التي تتعلق بالسياسات فقد صفة المرشح التوافقي للمعارضة وثارت الخلافات والاختلافات حوله. ولا تعني استشهاداتي تلك، والأدلة غيرها كثيرة، أن (الظاهرة) العابرة سوف تنتهي فورًا، بل إنها سوف تأخذ بعض الوقت حتي تأفل تمامًا.. أو تذبل.. وما أقوله هو إننا بصدد مقدمات سوف تقود إلي نتائج.. حتي لو كانت الكتابات الانتقادية في الصحف المؤيدة للبرادعي ترغب في أن تصوبه وتستحثه علي أن يعدل مناهجه.. وهو أمل يحدوها لكنه للأسف لن يتحقق.. ببساطة لأنه (البرادعي) لا يملك المقومات الحقيقية لسياسي يدرك أبعاد تعقيدات المجتمع الذي يريد أن يتصدي لقيادة تغيير وتطوير فيه. منذ البداية، كان منهجي الذي تقوم عليه مقالاتي في متابعة وتحليل (ظاهرة البرادعي)، هو أنه يجب أن تكون منا عمليًا لا انتسابًا.. ممارسة واختلاطًا وليس عن طريق المواطنة الشرفية.. وقد قلت وكررت إنه لكي تكون رئيسًا لنادٍ يجب أن تصبح عضوًا فيه.. ولكي تكون رئيسًا لاتحاد عمارة لابد أولاً أن تسكن في العقار.. ولا يمكن للدكتور البرادعي أن يعود بعد 30 سنة قافزًا علي كل مكونات المجتمع ونخبه لكي يردد كلامًا يقال فيه منذ سنوات.. وبعد أن تفرَّغ للبلد إثر تقاعده.. إذ بدا سائحًا مغتربًا غريبًا.. كما لو أنه خبير أجنبي.. مندهشًا.. ولكن يزعم بين (أسطوات البلد) إنه قادر علي تعليمهم الديمقراطية. لقد سقت من قبل أدلة كثيرة، ولكني أتوقف هذه المرة أمام مظهر مثير لاغتراب (البرادعي)، وكونه غير متفاعل مع ثقافة بلده، وأعني بذلك إقدامه علي أن يستخدم (حسابًا متحققًا منه) علي موقع (تويتر)، لكي يوجه لمناصريه بضع عبارات كل بضعة أيام.. يتكون كل منها حسب قواعد الموقع من 140 حرفًا.. لا تسمن ولا تغني من جوع.. ولكنها تلبي رغبته في أن يكون مقتديًا بالحالة الموسوية في إيران. النبي عربي.. والمصريون أولاد بلد، لكن المدير المتقاعد في عزبة جرانة قرر أن يخاطب الشعب بالإنجليزية في أغلب الأحوال.. وأولاً.. ثم يأتي من يترجم كلماته إلي العربية.. فتجدها وقد أصبحت عبارات مضحكة.. وغريبة.. كما لو أنها من ترجمات الشوام للأفلام الأمريكية التي نتضاحك عليها ونحن نتابع القنوات ونقارن بين الحوار بالإنجليزية وترجمته الشامية.. أو كما قال شاب علي (تويتر) إن البرادعي يترجم كلماته من خلال موقع (جوجل).. تعبيرًا عن ابتعاده عن الحس المصري العام. حظي البرادعي بقدر لا بأس به من السخرية بعد أن كان قد بدأ في انتقاد ظواهر مصرية بجملة مسخرة نصها: (إنه لأمر مشين).. وأماتني من الضحك وهو يترجم عبارة من الإنجليزية تقول (كلنا نتفق علي ضرورة أن نخرج أنفسنا من الحفرة التي سقطنا فيها).. أو وهو يقول (دع الحلم صاحي).. كما لو أنه قد أدرك أن أحلامه في الطريق إلي التلاشي. وعلي موقع «تويتر» حيث يتناثر الشباب المختلف توجد تعليقات متنوعة تظهر الفجوة بين المدير المتقاعد، السياسي السائح، والعائد المغترب.. وبين الرأي العام، من بينها من سخر من عبارة (إنه لأمر مشين)، وفيها من طالبه بالنزول إلي المظاهرات، ومن يطالبه بأن يكتب بالعربية، ومن قال: إن مظاهرات حركة «كفاية» لم تؤيد البرادعي، ومن قال في مرارة حرفيًا: (أنت مسافر تاني.. يا عم برادعي بطل حكاية فرقع لوز ونطاط الحيط دي.. وركز شوية ينوبك ثواب).. طبق الأصل من مداخلة شاب مصري علي موقع «تويتر». [email protected] www.abkamal.net