انشغلت الحلقة السابقة بالتوقف أمام الابتذال الجنسي الذي يمثل ملمحاً رئيسيا في كتابات علاء الأسواني، وهذا الملمح جزء من ثلاثية تضم النميمة السياسية والإثارة الدينية. عند البحث عن الرؤية السياسية للكاتب الذي حقق من الرواج الجماهيري المؤقت ما يفوق حجم موهبته المتواضعة، لابد من التأكيد أن الانتماء السياسي للمبدع لا يمثل في ذاته فعلا إيجابيا أو سلبيا، فالأمر كله رهين بالقدرة علي اتقان البناء الفني، والتحكم في ايقاع الأحداث ومنطقية سلوك الشخصيات، بما يقنع ويؤثر دون مباشرة فجة أو ردح رخيص. قراء نجيب محفوظ، الوفدي، ويوسف إدريس، اليساري الساخط، وعبدالرحمن الشرقاوي التقدمي الحالم بالعدالة، وفتحي غانم، الليبرالي المتسامح، وغيرهم، لن يصلوا إلي رؤاهم السياسية هذه إلا عبر تراكم فني وتفاعل إنساني يتجاوز الايديولوجي ضيق الأفق، فالنص الروائي ليس منشورا يتم توزيعه سرا، والروائي المتميز لا يمكن أن يكون داعية أو محرضا، فكيف إذن عندما يغيب الموقف السياسي محدد الملامح، ولا تبقي إلا صرخات الاحتجاج العدمي التي تري قتامة اللوحة، وتأبي أن تراود الضوء أو تفتح نافذة تتيح استنشاق الهواء النقي في زنزانة العفن؟!. النميمة السياسية علي «المصاطب» وفي القهاوي و«الغرز» والبارات، تتوالي المعلومات والتحليلات السياسية التي لا تصدر إلا عن أصحاب الخيال المحلق، بفعل المخدر وكئوس الخمر الرديئة، أو لأن الفراغ يفرض قوانينه ويصنع تجلياته وأكاذيبه وخزعبلاته. في الحكاية رقم (62) من «حكايات حارتنا»، للعبقري نجيب محفوظ، تتداول الحارة تفاصيل الحوار الثنائي، في مكان مغلق، بين الحاج علي الخلفاوي، وهو علي فراش المرض المفضي إلي الموت، وأكبر أبنائه، الحوار بينهما يتطرق إلي جانب بالغ الحساسية والخصوصية عن تاريخ الأب وسخط الابن، ولا يمثل الموت نهاية تستدعي اسدال الستار: «بل إن رواة القصة يتهمون ابنه بالعبث بدوائه ليعجل بنهايته. هكذا تروي الحكايات، وبدقة في التفاصيل لا تتاح إلا لمن شهدها، ولكن هكذا تروي الحكايات في حارتنا». روايتا الأسواني، من حيث المعالجة السياسية وما تتضمنه من حواديت واسقاطات، امتداد لأسلوب أبناء الحارة في القص الذي لا ينهض علي قدمين، ولا يتكئ علي منطق، المسألة أقرب إلي «النميمة السياسية» التي تجد أذانا صاغية من المتلهفين علي الاستماع إلي كل ما يحمل رائحة الإدانة والتشهير، بحثا عن التشفي والتنفيس. هكذا يقدم علاء شخصية كمال الفولي، الموصوف بأنه أمين التنظيم في الحزب الحاكم!، إذا كانت شخصية الصحفي الشاذ حاتم رشيد تستدعي خلافا متشعبا حول تحديد هويته، فإن كمال الفولي لا يحظي بالغموض نفسه، ذلك أن أسلوب الروائي في وصف سماته الشكلية والحركية، والإشارة إلي الرشاوي والتزوير، تمنح القارئ العادي إحساسا بالظفر والانتصار، فهو يكتشف حل «الفزورة» بلا عناء، ولابد أنه سيهنئ نفسه بالبراعة والذكاء، ويستمتع بإحساس التنفيس النفسي الذي يجسده مشجعو كرة القدم وهم يهللون لاحراز هدف مبكر، فيتعالي التصفيق والهتاف، بطولة مجانية تنبع من هجاء لا يكلف جهدا، وثرثرة تليق بصحيفة صفراء وليس بنص روائي. الفساد قائم في مصر وغيرها من البلدان، والفاسدون ينتشرون في كل زمان، ونجدهم في الساحات السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية، كما نجدهم في الطب والتعليم والمحاماة، الكارثة التي تنم عن محدودية الوعي، أن تختزل القضية في شخص بعينه، أو طائفة دون أخري، تسطيح ساذج يروق لمن يتوهمون أن جوهر المعارضة هو الإدانة الإنشائية الميسورة، والإسراف في التلطيخ الذي يعين الإرهاب ويدعمه، وصولا إلي الفوضي اليائسة المدمرة، ليس مثل هؤلاء، عند الأسواني، في مثاليتهم ونقائهم وطهرهم ورومانسيتهم وقوة عقيدتهم واقبالهم علي الاستشهاد في سبيل أهداف غائمة. إذا كان الفساد قد وصل إلي هذه الدرجة من البشاعة، وتحول إلي قانون عام يحكم ويتحكم وينظم العلاقات الاجتماعية، فلماذا لا نبايع القتلة، من دعاة الأفكار الحجرية التي تنتمي إلي العصور الوسطي؟!. روعة الإرهاب يسعي علاء الأسواني، ما وسعه الجهد، لاقناع القارئ بأن اتجاه طه الشاذلي، في «عمارة يعقوبيان»، إلي الانخراط في صفوف الإرهابيين، مبرر منطقي يستحق الإشادة والتبجيل فقد فشل في الالتحاق بكلية الشرطة، علي الرغم من تفوقه الدراسي، لأنه ابن البواب!، إذ صح هذا اللا منطق المغلوط، فإن الأغلبية العظمي مهيأة للتطرف والإرهاب، فمن الذي لا يعاني من شعور بالظلم والاضطهاد، دون نظر إلي صحة شعوره؟، وتزداد الصورة اكتمالا بالإلحاح علي التعذيب الوحشي الذي يتعرض له طه، فيقبل علي الانتقام الجدير بالتأييد!. قد يقال إن شخوص الأسواني، وكل وأي روائي آخر، يتمتعون بقدر من الاستقلال، ويحق لهم التعبير عن أحوالهم ودوافعهم بما يتوافق مع مسارهم ورحلة تطورهم، وقد يقال أيضا إنه ليس من حق الكاتب أن يفرض علي الشخصية ما يناقض ملامحها وتوجهاتها، كما أنه ليس محاميا يترافع أو قاضياً يحكم، الإرهابي إنسان في المقام الأول، ويملك قناعات واختيارات، ولابد من مراعاة فنية ومعقولية البناء دون نظر إلي موقف المبدع نفسه مما يكتب عنه، هذه كلها بديهات لا خلاف حولها، لكن الحديث هنا ينصب علي معالجة الروائي عندما تنتقل الكرة إلي ملعبه، وهو ما يتجلي بوضوح في السطور التي تتلو قتل الإرهابي طه الشاذلي، فتزفه الملائكة إلي السماء:«وصرخ متألما ثم خيل إليه أن الألم الرهيب يتلاشي شيئاً فشيئاً أحس براحة غريبة غامرة تحتويه وتحمله في طياتها وتناهت إلي سمعه أصوات بعيدة مفعمة: أجراس وترانيم وهمهمات منشدة تتردد وتقترب منه وكأنها تستقبله في عالم جديد. الروائي هنا هو من يرسم اللوحة ويحدد إطارها، كاشفا عن تعاطف لا يخفي، فالإرهابي شهيد يتجه إلي الجنة، ولابد من الانحياز إليه في عالم لا يحوي إلا مجموعة من الفاسدين والشواذ والمتاجرين بكل شيء! ليست مصادفة غير مقصودة، فالبطولة عند الأسواني للهدم دون البناء، والعدو الرئيس يتمثل في رجال الأمن الذين هم دعائم الدولة البوليسية الديكتاتورية، التي تتيح له أن يكتب كما يريد، ويخطب في روايته الأولي، ثم يواصل لعبته في «شيكاجو» حيث يظهر ضباط أمن الدولة والمخابرات كأنهم الشياطين، الذين يتقاضون مرتباتهم لإذلال الشعب وإهانته وتعذيبه واغتصاب نسائه! العقيد صالح رشوان، في «عمارة يعقوبيان»، لا يمكن أن يكون إنساناً، فحتي عتاة المجرمين قد يحملون ملمحاً واحدا إيجابيا، واللواء صفوت شاكر، في «شيكاجو» لا يختلف عنه موضوعيا، كتلة من الفساد والحقارة والشر، وبمثل هذه الأحادية تبدو المباراة من جانب واحد، ويتسع المجال واسعا لتبرير وتجميل كل سلوك مضاء يسعي إلي إسقاط النظام الفاسد، الذي ينشغل بفكرة ثابتة: كيف نقهر هذا الشعب ونهينه؟! معارضة أم إسفاف؟ النظام الحاكم ليس خاليا من العيوب والسلبيات، والرئيس ليس مقدسا يعلو فوق النقد وحق الاختلاف، لكن جوهر القضية يتعلق بضرورة التمييز بين المعارضة والإسفاف، فالعمل السياسي الموضوعي لا يمكن أن ينحدر إلي مستوي «الردح» الشخصي، ولكي يكتسب هذا التمييز مصداقيته، يمكن التوقف أمام سطور يكتبها الأسواني عن رجال الأمن المحيطين بالرئيس، كاشفا عما يتصور أنه السر في ولائهم وإخلاصهم: «كان رجال الأمن المصريون في أعماقهم يستشعرون جلال مهمتهم وخطورتها: التأمين الشخصي لسيادة رئيس الجمهورية.. كانوا يحبونه من أعماق قلوبهم، وينطقون اسمه بتبجيل وخشوع، فلولا قربهم منه لما نعموا بحياتهم الرغدة ونفوذهم البالغ علي كل أجهزة الدولة!.. لقد ارتبطوا به حتي صار مصيره يحدد مستقبلهم.. لو أصابه مكروه لا قدر الله، لو اغتيل كمن سبقه، فمعني ذلك ضياعهم التام.. سيحالون إلي الاستيداع، وربما يحاكمون ويسجنون إذا انتقلت السلطة إلي أعداء الرئيس.. وما أكثرهم! مصالح شخصية لا تتسع لجرام واحد من الانتماء للدولة والمحافظة علي أمنها واستقرارها، أما انتقال السلطة إلي أعداء الرئيس فيبدو قولا مرسلا ساذجاً، أم أن المراهنة علي انتقال السلطة إلي قوي الإرهاب التي يتم تمجيدها في الرواية الأولي، والمرضي النفسيين الذين تغالي الرواية الثانية في الإشادة بهم؟! أي ابتذال يفوق السطور التالية، التي يكتبها الأسواني في صورة حوار متوهم بين الرئيس وقائد الحرس الجمهوري: «يكون سيادة الرئيس رائق المزاج، فيربت كرشه البارز، ويقول بصوت ضاحك يسمعه الجميع: ياولد يامناوي بطل أكل.. بقيت عامل زي العجل أبيس! أو يصيح ساخرا: باين عليك سلمت النمر ياولد يامناوي! عندئذ يتضرج وجه اللواء المناوي زهوا من الشرف الكبير الذي ناله، فهذا التبسط السامي علامة ثقة ومحبة من سيادته يحسده عليها كثيرون! أهذه هي أصول المعارضة التي يدعو إليها الأسواني؟! ياله من أدب سياسي رفيع، أو رقيع، عندما يكتب نجم الصدفة عن رئيس الدولة بمثل هذه اللغة المتدنية المسفة: «علي أن من يري سيادته وجها لوجه، برغم الهيبة والرهبة، سيحس حتما بأن وجوده مصطنع علي نحو ما!.. شعره المصبوغ الفاحم الذي سرت شائعات جادة بأنه (كله أو جزء منه) عبارة عن باروكة مستعارة من أفضل الأنواع العالمية، بشرته التي أنهكتها عمليات الكشط والصنفرة والدهانات اليومية لإعطائها حيوية الشباب، وجهه المكسو بطبقات ماكياج دقيقة ليبدو أصغر سنا في الصور! لا تحتاج هذه البذاءات السخيفة بالغة الحقارة إلي تعليق، ولا شك أن نقاد الأدب لم يجدوا فيها إلا ابتذالاً رخيصاً يستثمر أجواء الحرية، ويراود بطولة وهمية، فعل الكتابة هنا يشبه ما يفعله الضائعون من أطفال الشوارع عندما يقذفون السيارات بالحجارة، لكن هؤلاء الصبية لا يعيشون في أوهام المعارضة، ولا يتخيلون أنهم من الأشاوس الجديرين بالتمجيد. لا يمت هذا السقوط المريع بصلة إلي المعارضة السياسية أو الخلاف الموضوعي المشروع، فمنذ متي يقال عن وصلات الردح السوقي إنها رؤي إصلاحية بديلة؟ من حق علاء الأسواني أن يعيش وهماً يتصور فيه نفسه معارضا شرساً يحارب الفساد ويدعو إلي التغيير، ومن حق القارئ الجاد أن يتأفف من هذا التقزز الذي يصيبه بالغثيان. لا شك أن الروائي محدود الموهبة يشعر بقدر كبير من المرارة لأن الأجهزة البوليسية القمعية لا تلتفت إليه، ولا تهتم به، وتدرك أنه فقاعة ماسخة لا وزن لها ولا تأثير، مثله في ذلك مثل الصحف السوداوية التي تنشر الأكاذيب وتواصل الصدور، حالمة بيوم تصادر فيه أو تتعرض للمحاكمة! في روايتي الأسواني، إسراف في الهجاء القبيح الذي لا هدف من ورائه إلا التباهي بالقدرة علي الشتم والسباب، فيالها من بطولة زائفة منقطعة النظير الأطباء الفاشلون وحدهم من يضحون بالأم والجنين لكي تنجح العملية، والأدباء الفاشلون وحدهم من يضحون بفنية النص الروائي وموضوعية المعالجة لتحقيق الإثارة والرواج، الأمر لا يتجاوز النميمة السياسية واجترار حكايات يتبادلها السكاري والحشاشون، أما الدفاع عن الإرهاب فأمر يخص الكاتب دون سواه، من يهللون ويطبلون يعرفون جيدا أنهم لا يراودون وجه الفن والإبداع وحرية التعبير، فالحكايات الجنسية لا تنتسب إلي هذا كله، والإسفاف السياسي فعل مبتذل، وأحلام الزعامة وهم مرضي، أما الأخطاء البنائية الفادحة فمغفورة للكاتب المسلح بكتيبة من الدعائيين الذين لا يعرفون إلا قراءة الحكايات المسلية. سقطات فنية قد يكون علاء الأسواني حكاء لطيفا مسليا، يجذب بلغته البسيطة الخفيفة جمهورا لم يعتد قراءة الأدب والإحاطة بقواعد الفن الروائي في نماذجه الرفيعة، لكنه من المصابين بأمراض فنية مزمنة، لا يجد لها علاجا شافيا. تكمن المشكلة الأولي في أسلوب بنائه للشخصيات، فهو بعيد عن التوازن والاعتدال، ويندفع لاتخاذ مواقف حادة تميل إلي الخير المطلق أو الشر غير المحدود، وعلي كثرة النماذج المشوهة التي يقدمها، فإن شخصية أحمد دنانة في «شيكاجو» تنهض دليلا دامغاً علي السطحية التي تشوه وتفسد، فالأسواني يقدم كتلة من الفساد والحقارة والدناءة، تجمع بين تناقضات لا تجتمع إلا في خيال مريض، مثل هذا النمط يعني السخرية من ذكاء القارئ والاستهانة بوعيه، فالحياة لا تعرف البعد الواحد، وعندما قدم نجيب محفوظ شخصيته زيطة صانع العاهات، في «زقاق المدق»، حرص علي إضفاء لمسات إنسانية تبرهن علي أنه ليس حيوانا خالصا!. ما يقال عن المسخ المشوه أحمد دنانة، ينطبق علي آخرين في روايتي الأسواني، فهو كاتب منحاز لا يتيح لشخوصه حدا أدني من التعبير الصادق عما يعتمل في أعماقهم، حيث اجتماع الخير والشر الأمر هنا يحتاج كاتبا موهوبا يبذل مجهودا شاقا، ولا ينصرف همه إلي المغزي السياسي قصير النظر، وهذا الهم المقيم وثيق الصلة بالسقطة الفنية الثانية، التي تتمثل في الولع المسرف بالثرثرة والأحاديث الجانبية المطولة التي تضعف ولا تضيف، فارق شاسع لا يعيه علاء بين الحكاية والرواية، وما يقال في مجالس المسامرة ينبغي أن يختلف جذريا عن النص المكتوب الذي يخضع لآليات التشكيل والتصميم والتطور!، إنه لا يقاوم إغراء الاسترسال، والتركيز عنده علي الجزئيات المسلية الغرائبية دون رابط موضوعي محسوب. يستطيع القارئ أن يتوقف أمام شخصية يختارها عشوائيا، ثم يعيد تقييم ما يقال منها وعنها، فإذا بالمحصلة تشبه الكرش الذي يدل علي استفحال المرض ولا ينبئ عن الصحة والعافية!. ثالثة الأثافي عند الأسواني تتجسد في عجزه المخجل عن اختيار النهاية الفنية المناسبة لسياق الأحداث، والصفحات الأخيرة في روايتيه شبيهة بالأفلام العربية التقليدية، التي يحرص صانعوها علي النهاية السعيدة: يتزوج زكي الدسوقي من بثينة وسط مشاركة الراقصات وتهليل المعازيم، ويعود طارق حسيب إلي شيماء بعد أن تخلي عنها وغدر بها، فيالها من مصادفة أن يصل الحبيب الوغد بعد دقائق من نهاية عملية الإجهاض، ويبتسم في بساطة كأن شيئا لم يحدث!. ثمة نكتة قديمة عن سائق محدث ساذج يقود السيارة بسرعة، وإذ يسأله الركاب أن يتوقف ليغادروا، يفاجئهم بأنه لا يعرف كيف يفعل!، هذا هو الأسواني، تراكم من الحكايات دون قدرة علي تفنينها، أو حتي عن وضع نهاية شبه مقنعة لها. وله.. ولنا.. الله!.