كانت الرسالة التي حملها حسن التهامي إلي بيجن في قصر ملك المغرب قصيرة ومركزة وخطيرة للغاية وهي: أنا علي استعداد لعقد اتفاقية سلام معك وعلي استعداد لأن آتي إلي القدس في مبادرة تاريخية من أجل ذلك.. في هذه الحالة، هل ستنسحب القوات الإسرائيلية إلي حدود مصر الدولية؟ وجاءت الإجابة: نعم. كان من المستحيل أن تكون الإجابة كلمة أخري، ليس لأن بيجن صدق ما يقوله السادات، بل لأنه لم يصدق من هذه الرسالة حرفا واحدا، ولكنه فعل بالضبط ما تمليه عليه طبيعة الأمور، فقدم بالضبط الإجابة التي يريدها السادات رئيس أكبر دولة عربية يقول له أنه علي استعداد للقدوم إلي القدس ليعرض السلام علي الشعب الإسرائيلي.. ماذا يقول له؟ سيقول له نعم طبعا إلي أن تتضح له أبعاد هذه المناورة الغريبة وهذه المناورة التي لا يصدقها عقل، فكانت الإجابة: نعم.. من المؤكد أن بيجن فكر علي النحو التالي: حتي لو كان السادات جادا وهو احتمال يكاد يكون معدوما، فهذه ( النعم) ليست ملزمة، هي ليست اتفاقية مكتوبة، هي ليست أكثر من كلمة تقال في السر لمبعوث سري وعندما يجد الجد، يبقي يفرجها ربنا.. عموما قواته موجودة في مواقعها في سيناء ولا أحد قادرا علي زحزحتها من مكانها. قبل أن أنتقل إلي المشهد التالي لابد من الإجابة عن سؤال: لماذا أرسل السادات رئيس المخابرات المصرية مع التهامي مع أنه لم يقابل ديان ولا يعرف شيئا عن هذا اللقاء؟ في المسرح لا توجد قطعة اكسسوار زائدة في الديكور ولا كلمة زائدة في الحوار ولا شخصية زائدة يمكن الاستغناء عنها، كل ما هو علي خشبة المسرح لابد من وجوده لتأدية وظيفة ما ضرورية للعرض المسرحي، فماذا كان دوره؟ من وجهة نظر درامية كان لابد للسادات أن يُشعر التهامي بأنه يتحرك تحت أنظاره الممثلة في المخابرات المصرية وبذلك يضمن ألا يخرج ملليمتر واحد عن الدائرة التي حددها له، وفي نفس الوقت كان علي وعي بأن هذا اللقاء يتم تحت رقابة المخابرات المغربية وربما الإسرائيلية أيضا، فأراد أن تكون رسالته لهم هي: ما أقوله ليس من بنات أفكاري.. إنه قرار اشتركت في صنعه المخابرات المصرية.. أي أن ما أعرضه عليكم هو أمر جاد تماما. المسرح الآن عليه شخصان فقط يتسمان بالعناد وقوة الإرادة، فلاح مصري منوفي في مواجهة مثقف بولندي، هناك عناصر كثيرة مشتركة بين الشخصين، كلاهما مر بخبرة العمل السري ومارس الكتابة، وكلاهما استطاع أن يتحول إلي رجل دولة وهو الأمر الصعب لغالبية الثوار، وكلاهما لديه حس قوي بالتاريخ، غير أن أحدهما كان صاحب موهبة درامية بينما الآخر صاحب موهبة أدبية والفرق بينهما كبير للغاية الكاتب يتعامل مع الكلمات ويجيد السرد أما رجل الدراما فهو يجيد نسج الفعل لقد قال بيجن كلمة ( نعم) متصورا أنه يستطيع أن يشطبها عندما يريد، غير أن السادات تمكن في وجود كارتر من تحويلها إلي فعل غير قابل للشطب أو التحريف،من المؤكد أن بيجن ندم علي هذه (النعم) فيما بعد، وهو ما يعرفه المثل الشعبي جيدا «كنت فين يا لأ.. لما أنا قلت أيوه» بعدها انتقل السادات إلي أخطر مشاهد العرض وهو ما نسميه المشهد الإجباري، وهو أن يعرض مبادرته علي العالم كله في مجلس الشعب فتصفق له كل الناس في حماسة بمن فيهم ياسر عرفات وعلي الفور يقدم له بيجن الدعوة لزيارة إسرائيل.. هل كان يستطيع فعل شيء آخر؟