في حياتنا اليومية نصادف أناسًا كثيرين يدعون العلم، وهم أجهل الجاهلين. ومنهم من لديه نصف معرفة، ويدعي أنه ملك الحقيقة المطلقة، وأنه أوتي من العلم ما لم يؤته أحد من العالمين.. في محيط حياتنا أناس تملأهم الثقة في الأحكام التي يصدرونها، رغم أنها قد تكون خاطئة، ويملأهم الإعجاب فيما يقومون به، رغم أنه قد يكون مليئًا بالنواقص.. هؤلاء نصف الجهلاء، وأصحاب نصف المعرفة أخطر علي الأمة من الجاهل المطلق، ومن الغبي الصريح.. هؤلاء الناس يخلطون العلم بالجهالة، ويكسون هذه الخلطة بالإعجاب والكبر. ثم ينشرونها بين الناس علي أنها من بنات عبقر، وما هي كذلك. وفي المقابل، يمتلئ مجتمعنا بالعباقرة في جميع المجالات، ولكن لا تحس بهم، من فرط بساطتهم، ومن فرط سموهم.. ولأنهم علماء وباحثون، فقد تسألهم عن بعض الأمور، فتكون إجابتهم بعدم المعرفة، خوفًا من أن يدلي برأي لا يملك كل ناصيته، وخوفًا من أن يقول كلامًا لا يتأكد منه.. هؤلاء العلماء لا يفتون بغير علم، ولا يحاولون إيهام الآخرين أنهم لا نظير لهم.. وهذا النموذج هو النموذج الإسلامي الصحيح للعلماء، الذين يقولون لا أدري أكثر من خوضهم فيما لا يعلمون. كان الإمام أبوحنيفة النعمان يقول «هذا رأينا.. فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه»، في إشارة إلي أن كلامه ليس قاطعًا، وإنما يحتمل الصواب والخطأ، علي النحو الذي قال به الإمام الشافعي «رأينا خطر يحتمل الصواب، ورأي غيرنا صواب يحتمل الخطأ».. وإن كان الناس قد قلبوا العبارة ونسبوها إلي الإمام الشافعي «رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب».. والعبارة الأخيرة لها دلالة عكسية.. وكان الإمام مالك يقول «كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا المقام (في إشارة إلي قبر الرسول صلي الله عليه وسلم). في سورة النمل، حديث شائق بين سيدنا سليمان والهدهد «وتفقد الطير فقال ما لي لا أري الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذابًا شديدًا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين.. فمكث غير بعيد، فقال أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ بنبأ يقين».. ويلفت نظرنا في هذا الحوار عدة أشياء، أولها: أن سيدنا سليمان قد أرجع عدم وجود الهدهد إلي نفسه أولاً، وإلي أنه لم يحسن الملاحظة «مالي لا أري الهدهد»، وأنه أعلن استعداده للحوار، ولم يكن رأيه قاطعًا «أو ليأتيني بسلطان مبين»، وأيضًا أن الهدهد كان يتمتع بحرية كبيرة في مناقشة الأمور، ويشعر بقيمته أمام النبي سليمان والذي لا شك هو الذي شجعه علي ذلك «أحطت بما لم تحط به».. هل يمكن أن يتم هذا الحوار بين أصغر الباحثين أو أقلهم خبرة وعلمًا في وقتنا؟ أشك في ذلك.