الأسباب الأسرية لمواقف البرادعي بعيدًا عن النظرية السياسية ل(عود الكبريت) التي رددها الدكتور محمد البرادعي، معتبرًا نفسه آلية تفجير (برميل بارود)، فإن في تصريحاته المتكررة أمرين يجب أن نحلل أبعادهما.. خاصة أنه يكررهما في الداخل والخارج.. ولمختلف وسائل الإعلام. الأمر الأول يتعلق بموقفه الشخصي من الخمسين عامًا الماضية في عمر مصر.. والثاني يخص وصفه المتكرر للنظام بأنه غير شرعي.. ومن ثم فإنه لا يريد أن يعمل في إطاره ووفق قوانينه. يقول البرادعي دائمًا: إن مصر لم تعرف ديمقراطية في الخمسين عامًا الماضية، ويقول: إن البلد يعاني من ديكتاتورية منذ ثورة يوليو، ويقول: إن مشكلاتنا نبعت منذ1952 . لقد بدأ الولوج إلي هذا المعني منذ أجري معه الأستاذ جميل مطر حواره المطول في جريدة الشروق الخاصة.. وقد كرر المعني في حواره مع مجلة نمساوية.. ويستدعي هذا الأمر أن نتساءل: ما هو الموقف الحقيقي للدكتور البرادعي من ثورة يوليو إجمالاً ومن الرئيس جمال عبدالناصر خصوصًا؟ أهمية السؤال لا تكمن فقط في معرفة المنطلق الحقيقي لأفكار البرادعي، ولكن في أنه يشير إلي التنافر الموضوعي بينه وبين فريق كبير من المحيطين به.. ينتمون إلي التيار الناصري أو إلي مؤيدي ثورة يوليو.. فإما أنهم بدلوا مواقفهم.. أو أنهم تحالفوا معه بغض النظر عن اختلافهم معه.. أو أنهم انضموا إليه بدون توقف وتبين. في حوار نشر له أمس الأول في جريدة «المصري اليوم» الخاصة عبر البرادعي عن موقفين.. الأول سياسي قانوني ويتعلق بانتقاده الشديد لنسبة العمال والفلاحين في مجلس الشعب.. ورفضه لها. والثاني شخصي ويكشف فيه عداء والده لنظام الرئيس عبدالناصر إلي درجة الصدام. مبدئيًا، أنا لا أري أن مرحلة الخمسينيات والستينيات كانت كلها حسنات، كان فيها الكثير من السيئات، لكن انتقادي لسلبياتها لا يعني رفضي للأسس التي قام عليها النظام الجمهوري انطلاقًا من حدث الثورة تاريخيًا.. ولا التركيبة الاجتماعية التي أفرزها عبر مجموعة هائلة من القوانين والإجراءات الثورية.. إن النظام القائم حاليًا تعود منابع شرعيته وأصوله إلي عام 1952 . بغض النظر عن الاختلاف السياسي مع أساليب الحكم في الفترات المختلفة. لكن البرادعي لا يختلف مع الأساليب وإنما مع الأسس، ومن ثم فإن كشفه عن موقفه من أحد أهم أسس التوازن الاجتماعي في الدستور (نسبة العمال والفلاحين)، يعني أنه حين يعود بأصول المشكلة المصرية إلي ثورة 1952، إنما يعلن موقفًا محددًا من المرحلة الكاملة التي بدأت في ذلك العام، ويستوجب هذا أن نسائله بخصوص إجمالي مواقفه من هذا.. وهل هو يريد في مسعاه الحالي تغييرًا ينسف الخلاصات التاريخية التي انبني عليها المجتمع في السنوات الخمسين أم أن هذا مجرد موقف انتقادي لأساليب الحكم؟ هذه مسألة جوهرية، وأما مسألة والده فهي تنقلنا إلي المساحة الرمادية ما بين الذاتي والموضوعي في تحركات البرادعي الحالية.. إن الدكتور المبشر بالتغيير وفق استخلاصات مختلفة ينطلق من ثأر شخصي.. بدا الآن أن له أصلين.. الأول يتعلق بوالده.. وموقفه من نظام الستينيات.. والثاني يتعلق به.. وموقفه من نظام حكم الرئيس مبارك.. لأن وزارة الخارجية في عهد عمرو موسي لم توافق علي أن يكون محمد البرادعي مرشح مصر في انتخابات مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومن المثير للتأمل أن يكرر البرادعي وصفه للنظام الحالي باعتباره غير شرعي.. وهو يمد جذور اللاشرعية إلي خمسين عامًا مضت.. وقد كتب قارئ اسمه إسلام حسن معلقاً علي مقالي أول من أمس علي موقع «روزاليوسف» متسائلاً: إذا كان هذا النظام غير شرعي.. فلماذا قبلت منه قلادة النيل؟ ومن جانبي أضيف للقارئ موجهاً الكلام للبرادعي: ألم تكن موظفًا دبلوماسيًا في هذا النظام.. وكنت عضوًا في وزارة خارجيته.. فهل كنت وقتها تعمل من أجل نظام غير شرعي.. وهل كنت تسعي إلي ترشيح نظام غير شرعي لك لمنصب دولي؟ إن للشرعية مقاييس لابد أن خبرة الدكتور البرادعي تستوعبها.. ومن بينها المقاييس القانونية التي تقوم عليها أسس النظام.. دستور.. ومؤسسات.. وسلطات منظمة.. وانتخابات.. كون أن البعض يطعن في نتائج هذه الانتخابات فإن هذا لا يعني أنها غير صحيحة.. ولا تقوم عليها شرعية سليمة.. ومن بين تلك المقاييس التي تنبني عليها الشرعية: الفضاء الدولي للعلاقات القانونية للدولة.. باعتبارها معترفًا بها.. وتوقيعاتها علي الاتفاقيات مقرة.. والتزاماتها العالمية معروفة. ومن بين مقومات الشرعية قدرة النظام علي حماية الدولة وحفظ سيادتها وصون أراضيها.. وأعتقد أن الدكتور البرادعي يدرك جيدًا أن مصر تعيش حاليًا لأول مرة في تاريخها الحديث حالة الأرض المحررة بالكامل.. ولم يحدث منذ بدأ الاحتلال البريطاني في 1882 أن كانت مصر علي هذا الوضع. وتنطوي الشرعية علي مقاييس معنوية مختلفة.. منها التلبية التي يقوم بها النظام لاستقرار المجتمع ورغبات فئاته.. وتوازن طبقاته.. وهذا نظام يتسق مع متطلبات المجتمع.. وتوازناته.. وتركيبة طبقاته.. كون أن هناك مشاعر عدم رضاء عن أداء الإدارة بين بعض القطاعات فإن هذا لا يعني علي الإطلاق أن النظام غير شرعي.. علي سبيل المثال هناك غضب عارم من فئات مجتمعية مختلفة في فرنسا علي حكم الرئيس ساركوزي عبرت عنه المظاهرات والاعتراضات ونتائج الانتخابات المحلية الأخيرة.. فهل هذا يعني أنه غير شرعي؟ أتفهم بالطبع أن الدكتور البرادعي لديه إحساس عميق بافتقاد الشرعية الذاتية.. وأنه يدرك قبل غيره أنه قد أقحم نفسه علي تفاعلات بلد غاب عنه ثلاثين عامًا.. وأتفهم بالطبع أنه لا يقوي علي تلبية المتطلبات القانونية للشرعية في إطار الدستور.. وأتفهم بالتأكيد أنه لديه إحساس بالمرارة لأن البلد لم يرشحه مديرًا لوكالة الطاقة الذرية.. ثم جاء عبر ترشيحات أخري ومساندات معروفة.. لكن كل مقومات النقص في (شرعيته) المعنوية والسياسية والقانونية لا تعطيه الحق علي الإطلاق لكي يصف النظام بأنه غير شرعي. اقرأ تحقيقات وحوارات ص8 [email protected] www.abkamal.net