التاريخ هنا غاية في حد ذاته، وليس وسيلة أو حجة لإثبات شيء ما، فقد اختار مؤرخون بريطانيون معاصرون إعادة النظر في الحروب الصليبية من حيث إنها تطبيق عملي عميق بعيد المدي والتأثير علي ما يسمي ب"تاريخ الذاكرة الإنسانية" أو "تاريخ الحروب المقدسة" المتصلة بعلاقة متينة بعقائد وأديان من يخوضونها. تبني المؤرخان الشابان توماس أسبريدج وجوناثان فيليبس وجهة النظر المساندة للعرب والمسلمين، لكنهما لا يفعلان هكذا مجاناً علي حساب الغرب المسيحي، ببساطة هما لا يلومان طرفًا ويمجدان الطرف الآخر، إنما حاولا النظر بمنطق إنساني إلي تاريخ تلك القرون المضطربة التي صنعت الغرب والعالم العربي، ولا زالت تحدد حتي اليوم علاقتهما، فالحرب علي شاكلة الحروب الصليبية ووفق مفهوم أستاذا التاريخ بجامعة لندن، هي تجسيد لمعني الصراع بين الأخيار والأشرار، وأن لكل منهما منطقه، أما أشرار التاريخ فيبدو نسبيا من السهل فهم دوافعهم وأفعالهم النكراء التي لا يزال كثير منها معترف به في سياسة الحروب، لكن الأخيار في الحرب، الذين يراهم المعاصرون أبطالاً أو قديسين، فهؤلاء بحسب المؤلفين يثيرون الألغاز حقا، إن لم يثيروا الفزع في القلوب، فالصليبيون أو الملوك الأوروبيين الذين قادوا بعض الحملات الصليبية قد فعلوا أشياء خسيسة من أجل أسمي الدوافع والغايات. قرأنا أنهم ينشدون التراتيل في الوقت الذي يريقون فيه الدماء، ومن هنا جري تداول "الفرنجة المسيحيين" في الأدبيات الغربية بوصفهم حجاج مسلحين، وهذا التناقض المحير كما يستنتج الباحثان هو أكثر الأشياء وضوحا في تاريخ الحروب الصليبية، ففي الوقت الذي يري فيه المسلمون في شخصيات صلاح الدين والظاهر بيبرس أبطالا محررين، يري الأوروبيون الشخصيات المشاركة في الحروب الصليبية أبطالا مغامرين محاطين بهالة من القداسة، فيعتبر لويس التاسع مثلا قديسا ويمثل صورة المؤمن الخالص في فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملكًا صليبيا نموذجيا، وكذلك يجري التعريف بفريدريك بربروسا في الثقافة الألمانية. في الكتابين: "المحاربون القديسون.. التاريخ الحديث للحروب الصليبية" و"الحروب الصليبية.. التاريخ الرسمي للحرب من أجل الأرض المقدسة"، يري المؤلفان أن المغزي في قصص الصليبيين هو تقواهم وإيمانهم النقي بقدر نقاء وحشيتهم، وهكذا يختصر جوناثان فيليبس صاحب الكتاب الأول منهجه في "الإيمان يكمن في قلب الحرب المقدسة"، لكي يصور أن تلك الحماسة التي أدت إلي مجزرة مروعة علي كلا الجانبين المسيحي والمسلم، هي ذاتها التي ألهمت بالتضحية بالنفس وإثبات البطولة الحقيقية عبر بذل الجهود غير العادية، وعليه يقصد فيليب ب"المحاربين القديسين" أي "المجاهدين" أو الأشخاص المدفوعين وراء شيء ما لارتكاب حماقة الحروب، وبهذا المنطق يعيش هذا الكتاب مع كل الشخصيات علي حد سواء، من الباباوات إلي الملوك ورؤساء الدير، ريتشارد قلب الأسد وصلاح الدين الأيوبي، وحتي الشخصيات الأقل شهرة مثل الملكة ميسلندا ملكة القدس وشقيقتها المتمردة أليس أنطاكية، فضلا عن ذلك يرسم فيليبس بطريقة دقيقة ملامح شخصيات القرن الثاني عشر المسلمة، مثل علي بن طاهر السلمي، وهو واعظ للجهاد، وأسامة بن منقذ، شاعر وأديب ومؤرخ، وابن جبير الرحالة العربي الأندلسي، كل هؤلاء أعادهم الكتاب إلي الحياة مرة أخري. بينما يؤكد فيلبس في "المحاربون القديسون" علي تلك الإنتصارات والاخفاقات الدامية بوصفها لعبت دورا في بناء لايزال يعيش بيننا حتي اليوم، وأورثت تركة من الكراهية الدينية والثقافية المستمرة بين الطرفين، يدلل الكتاب الثاني التاريخ الرسمي للحروب الصليبية علي تورط السياسة مع الدين في الحروب بين أوروبا المسيحية والإسلام، ولهذا يسلط الضوء علي ما أسماه الدوافع الروحية وراء الحملات الصليبية.