رحلا.. وكلاهما في كامل لياقتهما الفكرية للإجابة علي تساؤلات التحوّلات التي نمر بها. أما الدكتور سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر، فكان يقف علي رأس مؤسسة ظلت تلعب دورا أساسيا وفكريا وحضاريا بارزا ينعكس علي المسيرة السياسية مصريا وعربيا وإسلاميا. ومنذ الربع الأخير من القرن العشرين، ظهرت شرائح واسعة في مصر والمنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، تركز علي الإسلام كالعامل الرئيسي للخلاص السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ورفعت جماعة الإخوان في سعيها للاستيلاء علي السلطة شعار "الإسلام هو الحل". في هذه الفترة قابلت الدكتور سيد طنطاوي، وكان يشغل منصب مفتي الديار. جاء يلبي دعوة وجهت إليه للإجابة علي أسئلة الأطباء في مستشفي جمال عبد الناصر للتأمين الصحي! تركزت الأسئلة حول الحرام والحلال، وبدا لي أن الإخوان والجماعات المنبثقة عنهم قد نجحوا في نقل نمط تفكيرهم، وجاءوا يديرون لاالشارع وحده علي هامش الدين وتطبيق الشريعة وإقامة الحدود، وإنّما الأطباء أيضا! الذين تبعث في عقولهم دراسة الطبّ وتطبيقه عقلانية شخصية يواجهونها في كل كبيرة وصغيرة فيما درسوه وما يتعاملون معه من مرض وشفاء وحياة وموت. وكان يصعب أن تصدق أن يغطي جدران دار الحكمة ومقار نقابات الأطباء ملصق "الإسلام هو الحل" وأن تردد وراء هاتف يمسك بميكروفون دعاء السفر عندما تركب أتوبيسا لنقابة الأطبّاء، وأن تقرأ علي باب المرحاض دعاء الدخول إليه والخروج منه، وألا يسمح لبنات الأطبّاء بالدخول إلي ناديهم وهن يلبسن الاسترتش، وألا تقوم الطبيبة بالاشتراك في رحلات النقابة حتي وإن كانت داخل مصر دون محرم، وأن تحل مسابقات وفوازير جريدة أخبار الأطباء حول غزوة بدر وغزوة أحد.. وأخيرا وليس آخرا أن تتركز أسئلة الأطباء في لقائهم مع الدكتور سيد طنطاوي حول فوائد البنوك المصرية كربا، فيما عدا بنك فيصل الإسلامي وشركات توظيف الأموال مثل الشريف والسعد والريان! ليست هناك صعوبة كبيرة في أن تفرق بين المشروعية الفكرية للتساؤلات حول دور الإسلام يقوم بها الأزهر وشيخه في الحوار الدائر حول الإصلاح وبين اللامّشروعية السياسية تستغلّ ما للإسلام من جذور وتأثير في تكوين مجتمعاته. تفرق بين الاستلاب الثقافي تقوم به آلية تنظيمية تريد بالعنف غالبا يصل إلي الاغتيالات والإرهاب الدموي أن تتجاوز المحدّدات السياسية والديمقراطية لفرض دعوتها، وبين آراء ومواقف د. سيد طنطاوي تتفق معها أحيانا وتختلف أخري وحيث يظلّ الحوار هو مربط الفرس. لكن الحوار بديل عن الأعمال الإرهابية ليس من غير مكونات سياسية واقتصادية وفلسفية، ينبهنا الموت إلي ذلك إذا كانت الحياة قد عجزت عن تذكيرنا بالمدافعين عن قيمة العقل وحرية التفكير، يرحل عنا أيضًا الدكتور فؤاد زكريا بعد عمر حافل في حرب شرسة لا هوادة فيها ضد الجهل والخرافة والتفكير الغيبي. تحدي السطوة الشعبية التي يفتعلهاالإسلام السياسي، وفي مناظرته الشهيرة مع الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي كان يرفع شعار "العلمانية هي الحل" مقابل شعارهما المشترك "الإسلام هو الحل". أكد للجميع قدرته الهائلة والهادئة علي الإقناع مستعينا بمحض التفكير العلمي والأدوات المعرفية والتحليل النابع من فهم مستنير لأحوالنا العربية تحت ظلال الدين والتدين علي حد سواء. وبديهي أن تأثيرالإسلام في نفوس النّاس هو الذي يعطي للغزالي والقرضاوي قيمتهما، أما الدكتور فؤاد زكريا فكان يلتزم بألا يكون هذا التأثير هو البضاعة التي تستلب عقول العامة وقلبهم وكل الفجوات المستعصية علي الفهم في شئون الحياة والموت. وإذا كان فؤاد زكريا قد قدم لمكتبة العقل العربي مجموعة مهمة من المؤلفات والترجمات الثقيلة في ميزان صناعة الكتاب، فإن كتابه "التفكير العلمي" الصادر عن سلسلة عالم المعرفة في الكويت، يظل هو الكتاب الأشهر له علي الإطلاق. وقدأثاره كتابه "الثقافة"العربية وأزمة الخليج" الذي صدر في أعقاب احتلال العراق للكويت عام 1990، جدلا كبيرا، وفيه فضح هذا المفكر الحر ذلك التحالف الذي انعقد اتفاقا أو صدفة بين فلول اليسار العربي وطلائع التأسلم الحزبي تأييدا لصدام حسين. رحل فؤاد زكريا، لكن أفكاره التنويرية لم ترحل معه، بل ظلت كي تكون احد أجمل المشاريع في سبيل تفكير عربي إنساني حر.. لعله يساهم في الإجابة علي سؤاله الذي بقي معلقا علي هامش ما كتب وعالقا في ذهنه اليقظ حتي النهاية: لماذا تخلفنا؟ ولماذا تقدموا؟!