رئيس جامعة طنطا يواصل جولات متابعة سير أعمال الامتحانات النهائية    الوزراء: لا توجد أي مؤشرات على تغير مستوى الخلفية الإشعاعية داخل مصر    وزير الطيران: استقبلنا أكثر من 700 طائرة بعد غلق المجالات الجوية المجاورة    فرق فنية للمرور على لجان الثانوية العامة بالقاهرة للتأكد من توافر خدمات مياه الشرب    محافظ المنيا يُسلم 328 عقد تقنين لأراضي أملاك الدولة    متحدث جيش الاحتلال : الهجمات الإيرانية لم تتوقف وإسرائيل مستعدة لكل الاحتمالات    خبير عسكري يفجر مفاجأة بشأن الضربات الإسرائيلية ضد إيران    ماسكيرانو يثير الجدل قبل مواجهة الأهلي وإنتر مامي    قائد بوتافوجو: مستعدون لمواجهة أتليتكو مدريد وسان جيرمان.. ونسعى لتحقيق اللقب    في اليوم الوطني لمناهضة ختان الإناث.. النيابة الإدارية تشدد علي الإبلاغ عن جريمتها    مؤامرة الحريم، محمد خميس يروي قصة قتل الملك رمسيس الثالث    بيعملوا كل حاجة على أكمل وجه.. تعرف على أكثر 5 أبراج مثالية    متحدث الحكومة يكشف أسباب تأجيل افتتاح المتحف المصري الكبير: التداعيات الإقليمية ستستمر لفترة طويلة    مايان السيد تنشر صورًا من حفل زفاف شقيقتها وتعلق: "أختي أحلى عروسة"    ب فستان جريء وشفاف.. جومانا مراد بإطلالة لافتة في أحدث ظهور    أحاديث عن فضل صيام العشر الأوائل من شهر المحرم    التايمز: الدفاع البريطانية تأهبت قبيل هجوم إسرائيل على إيران لكن تم استبعادها    مصدر ليلا كورة: الزمالك يرحب بعودة طارق حامد.. واللاعب ينتظر عرضًا رسميًا    السياحة: منع الحج غير النظامي أسهم بشكل مباشر في تحقيق موسم آمن    خبير استراتيجي: إيران في مأزق كبير.. والجبهة الداخلية مخترقة بدعم أمريكي    نور الشربيني من الإسكندرية تؤازر الأهلي في كأس العالم للأندية    تزامنا مع دخول الصيف.. الصحة تصدر تحذيرات وقائية من أشعة الشمس    صوت أم كلثوم على تتر مسلسل «فات الميعاد» | شاهد    تعليمات لرؤساء لجان امتحانات الثانوية العامة بالفيوم    "الإصلاح المؤسسي وتحسين كفاءة الخدمات الحكومية".. جلسة تثقيفية بجامعة أسيوط    شركة سكاى أبو ظبي تسدد 10 ملايين دولار دفعة مقدمة لتطوير 430 فدانا فى الساحل الشمالي    بأغاني رومانسية واستعراضات مبهرة.. حمادة هلال يشعل أجواء الصيف في حفل «بتروسبورت»    ديمبيلي يكشف عن الهدف الأهم فى مسيرته    باحث عمانى: جميع الخيارات مطروحة لإنهاء الحرب أو استمرارها    تعاون بين «إيتيدا» وجامعة العريش لبناء القدرات الرقمية لأبناء شمال سيناء    تأجيل محاكمة 3 متهمين في حادث وفاة لاعب الكاراتيه بالإسكندرية ل28 يونيو للنطق بالحكم    كأس العالم للأندية.. باريس الباحث عن موسم استثنائي يتحدى طموحات أتلتيكو    رئيس الوزراء يتفقد مركز تنمية الأسرة والطفل بزاوية صقر    الأكاديمية العسكرية تحتفل بتخرج الدورة التدريبية الرابعة لأعضاء هيئة الرقابة الإدارية    امتحانات الثانوية العامة.. الصحة تعتمد خطة تأمين أكثر من 800 ألف طالب    محافظ كفر الشيخ يُدشن حملة «من بدري أمان» للكشف المبكر عن الأورام    لطلاب الثانوية العامة.. نصائح لتعزيز القدرة على المذاكرة دون إرهاق    «التعليم العالي» تنظم حفل تخرج للوافدين من المركز الثقافي المصري لتعليم اللغة العربية    خبير اقتصادي: الدولة المصرية تتعامل بمرونة واستباقية مع أي تطورات جيوسياسية    السجن المؤبد ل5 متهمين بقضية داعش سوهاج وإدراجهم بقوائم الإرهاب    تخفيف عقوبة السجن المشدد ل متهم بالشروع في القتل ب المنيا    غدا.. بدء التقديم "لمسابقة الأزهر للسنة النبوية"    أهم أخبار الكويت اليوم السبت 14 يونيو 2025    غدا .. انطلاق فعاليات مؤتمر التمويل التنموي لتمكين القطاع الخاص    "القومي للأشخاص ذوي الإعاقة" ومؤسسة "شجرة التوت" يطلقان فعاليات منصة "القدرة على الفن - Artability HUB"    يسرى جبرى يرد على من يقولون إن فريضة الحج تعب ومشقة وزيارة حجارة    باستخدام المنظار.. استئصال جذري لكلى مريض مصاب بورم خبيث في مستشفى المبرة بالمحلة    إيران تؤكد وقوع أضرار في موقع فوردو النووي    إجرام واستعلاء.. حزب النور يستنكر الهجمات الإسرائيلية على إيران    طلب إحاطة يحذر من غش مواد البناء: تهديد لحياة المواطنين والمنشآت    وكيل تعليم الإسماعيلية يجتمع برؤساء لجان الثانوية العامة    مدبولي: الحكومة تبذل قصارى جهدها لتحقيق نقلة نوعية في حياة المواطنين    الطبيب الألماني يخطر أحمد حمدي بهذا الأمر    على غرار ياسين.. والدة طفل تتهم مدرب كاراتيه بهتك عرض نجلها بالفيوم    الصحة: قافلة متخصصة في جراحات الجهاز الهضمي للأطفال ب«طنطا العام» بمشاركة الخبير العالمي الدكتور كريم أبوالمجد    جماهير الأهلي توجه رسائل مباشرة ل تريزيجية وهاني قبل مباراة إنتر ميامي (فيديو)    «الإفتاء» توضح كيفية الطهارة عند وقوع نجاسة ولم يُعرَف موضعها؟    ما حكم أداء النافلة بين الصلاتين عند جمع التقديم؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسام تمام يكتب: هل يعيد الشيخ أحمد الطيب زمن الأزهر الشريف؟
نشر في الدستور الأصلي يوم 27 - 08 - 2010

علي الرغم من أن تراجع المؤسسة الدينية (الأزهر وما يتصل به من إفتاء وأوقاف) كفاعل في التدين والتأثير في الشأن الديني كان أبرز معالم التحولات التي عرفتها الحالة الدينية في مصر في الثلاثة عقود الأخيرة؛ فإن ثمة مؤشرات قوية علي أننا بإزاء لحظة فارقة نتصور معها إمكانية عودة هذه المؤسسة في استعادة حضورها وفاعليتها كفاعل مركزي في إدارة وتوجيه الشأن الديني في مصر وأنحاء كثير من العالم الإسلامي كما كان الحال تاريخيا.
القول بتراجع الأزهر ليس تجاوزا في حقه أو إقلالا من شأنه بالضرورة، ثمة أسباب بعضها متعلق بالتطورات التي طالت الفكرة الدينية نفسها، وبعضها يتعلق بالمؤسسة نفسها والسياق التاريخي الذي مرت به، ثمة تراجع لفكرة المؤسسة الدينية نفسها في التدين سواء كبناء مؤسسي أو كنسق للتدين وهذا يطال المؤسسة الدينية الإسلامية وغير الإسلامية، وثمة سياق ديني وسياسي أعاق الأزهر أو تسبب في تراجعه. والحق أن تراجع الأزهر بدأ منذ أكثر من نصف قرن لأسباب مختلفة أهمها سياسة الإلحاق المباشر من قبل الدولة الحديثة والتي نظرت له مرة كخصم تخصم قوته من قوتها ومرة أخري كمؤسسة تابعة لا تتورع عن توظيفها وتوجيهها كأداة أو ذراع ديني لمشروعها السياسي. لقد كانت البداية مع ثورة يوليو، بدأها جمال عبد الناصر لكن ثمارها أطلت في عهد السادات وأينعت وتم قطافها في عهد مبارك. استلحق ناصر الأزهر بدولاب الدولة لكن دوره ظل موجودا وفاعلا ارتباطا بقوة وفاعلية الدور المصري وقتها كقائد للأمة ومركز حركتها، وفي عهد السادات غاب الدور تماما لكن لم تتوقف الدولة عن سياسة الإلحاق والتوظيف وزادت أن فتحت الباب لفاعلين دينيين جدد (الجماعات الإسلامية) متأثرين كلية بالوافد الوهابي الجديد والقوي بفعل الصعود السعودي المسنود بطفرة نفطية هائلة، وهو الوافد الذي كان يضرب بقوة في الأساس الديني للأزهر المؤسسة السنية الأكبر والأقدم في تقاليدها وتراثها الأشعري في المعتقد والمنفتح علي تعددية فقهية واسعة والمتسامح مع التصوف.
لقد بدأ التعثر الحقيقي للأزهر منذ السبعينيات مع بدء تراجعه عقديا أمام المد السلفي الوهابي الذي كانت الجماعات الإسلامية باختلافها تعبيره الأكثر وضوحا، وما كان لمقاومته أن تستمر طويلا لولا قوة الدفع الذاتي للمؤسسة والحضور الاستثنائي لبعض رموزها وأبرزهم الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود (ت 1978) الذي ربما كان آخر مشايخ الأزهر من الأشاعرة المتصوفين قبل شيخه الجديد الإمام الأكبر أحمد الطيب.
لكن، ومنذ الثمانينيات من القرن الفائت، انفرط العقد وكرت المسبحة وتسارعت وتيرة التراجع بشكل غير مسبوق: صعدت جماعات الإسلام السياسي وملأت المجال الديني (فضلا عن السياسي بالطبع) الذي تأسس حضوره فيها علي أساس من الطعن والانتقاص في شرعية الأزهر كممثل للسلطة ورمزها الديني، واضطرت السلطة الفاقدة لمشروع سياسي إلي التوسع في استلحاق المؤسسة الدينية وتوظيفها لمواجهة هذا الصعود لجماعات الإسلام السياسي مما أكد دعاية الأخيرة وأضعف الأزهر وأفقده قدرا كبيرا من مشروعيته ومن قدرته علي قيادة المجال الديني. لقد كان هذا ما يجري فعلا داخل المؤسسة السنية الأهم في العالم، لقد غطي عجيج المواجهة علي تحولات مهمة تمثلت في تآكل المعتقد الأزهري وتراجعه تحت مد سلفي وهابي أدي إلي موجة تسلف اجتاحت حتي المؤسسة الأشعرية نفسها، وصار الأزهر، وتحديدا الجامعة، مركزا للسلفية. لم تعد السلفية تيارا هامشيا في الأزهر، وإنما صارت الأكثر دينامية وفاعلية في التأثير عقديا وفكريا داخله.
وكالعادة، اهتم النظام السياسي بضبط المؤسسة الدينية والسيطرة عليها وتوظيفها أكثر من اهتمامه بتقويتها كمركز استقرار للتدين المعتدل الذي ظل عنوانا للأزهر، وبالطبع لم يكن واردا في حالة التردي والانهيار أن يكون للنظام السياسي وعي يتيح له فهم تضاريس المشهد الديني وتعقيداته، ومن ثم فقد اتسمت اختياراته وقراراته في المجال الديني بعشوائية وضيق أفق غير محدود يفتقد لأي أفق استراتيجية. ودائما كانت حاجته لإسناد ديني مباشر أهم كثيرا من أي مصلحة عليا. والحق أن تجربة الشيخ الراحل محمد سيد طنطاوي رحمه الله (1928-2010) كانت أبرز عناوين أزمة المؤسسة الدينية، سواء حين كان مفتيا (1986) أو بعد أن تم ترفيعه شيخا للأزهر (1996) وهي فترة طويلة جاوزت ربع القرن كانت نتائجها سلبية علي المؤسسة الدينية وصورتها مما أضعف قدرتها علي الفعل والتأثير داخل مصر وخارجها. لقد افتقدت المؤسسة الدينية تحت قيادة الشيخ طنطاوي لأي تصور حول طبيعتها ودورها المفترض وموقعها وعلاقتها سواء بالدولة ومؤسسات أو بالفاعلين الديين الآخرين أو بالعالم، فكانت حقبة تعكس ما انتهت إليه الأوضاع من عشوائية تضرب في جنبات الدولة المصرية. لقد اضطرب وضع الأزهر وقبله الإفتاء كثيرا في عهد الشيخ طنطاوي رحمه الله، فلم يستطع تحديد موقعه من الدولة ومؤسساتها: لقد كان يري نفسه رحمه الله موظفا، بالمعني الحرفي للموظف المصري، كما اضطربت علاقته بالعالم وصار الأزهر أقل من توقعات العالم منه، لم يلتفت كثيرا لتطلعات العالم الإسلامي خصوصا السني وما ينتظره خصوصا حاجته لقيادة دينية جامعة، وفي حين كان الغرب الذي يشكو التشدد والتطرف الديني يطلب دورا للأزهر في فضائه الديني كان الشيخ يصر علي محلية الأزهر ويلزمه أضيق الحدود، علي نحو ما قاله لنيكولاي ساركوزي في قضية الحجاب!، أما العلاقة بالفاعلين الدينيين الآخرين فلم تكن أحسن حالا: ملاسنات سياسوية صغيرة تنحاز للسلطة لكنها تفيد عمليا خصومها، وتراجع كبير علي مستوي الأطروحة العقدية والفكرية جعلت الأزهر يشهد أكبر موجة مد للسلفية والإسلام السياسي في تاريخه. إن قراءة مدققة للأزهر منذ عهد شيخه عبد الحليم محمود تقول إن أصوله العقدية والفكرية كادت تتغير.لا يسمح المقام بالوقوف تفصيلا عند الحيثيات التي رجحت اختيار الدكتور أحمد الطيب شيخا للأزهر خلفا للشيخ سيد طنطاوي رغم أهميتها في فهم الوضع وميكانيزمات الفعل داخل المؤسسة الدينية، لكن الأكيد أنه كان اختيارا يفتح أيضا الباب للقول بإمكانات تغييرات مهمة تطول الحالة الدينية بما يسمح بعودة قوية للمؤسسة الدينية، والتي يبدو أن مؤشرات كثيرة تؤكد علي قدرتها علي استعادة نفوذها ومن ثم إعادة ترتيب المشهد الديني في مصر الذي طالته تغييرات مهمة.
نرصد مثلا انكساراً واضحاً للإسلام السياسي بشقيه الجهادي أو السلمي، ونري مراجعات للجهاديين وتراجعات للسياسيين بشكل لم يعد معه الإسلام السياسي مركز الفعل والتأثير الديني في مصر، وهناك اكتساح سلفي جارف يجتاح مجمل المشهد الديني ولا يستثني أيا من فاعليه، وهو ما صار يستنفر حضورا مضادا لا يمكن أن يتبلور إلا في مؤسسة الأزهر باعتبارها تحمل أطروحة مغايرة حيث الأشعرية في الاعتقاد والصوفية في السلوك والنظر باعتبار لتعددية المذاهب الفقهية الواسعة.. إن الأزهر يقف هنا باعتباره المشروع الأبرز لمواجهة السلفية ضمن فضاء أهل السنة والجماعة. ثمة أيضا حالة من الفوضي الدينية العارمة، خصوصا مع الفضائيات الدينية، يتعاظم معها الحاجة إلي المؤسسة التي تضبط وتقّيم وتكون حكما ومرجعا.. والمفارقة المهمة أننا في لحظة صارت فيها عودة الأزهر مطلبا عاما ليس من المجتمع فقط بل ومن الفاعلين الدينيين أيضا فضلا عن الدولة نفسها التي كان يبدو أن ثمة من تبين فيها أن سياستها السابقة في استلحاق الأزهر كانت ضارة، خاصة بعد أن صار تراجعه عنوانا لتراجع الدولة المصرية نفسها.
الحق أيضا أن تجربة اختيار الشيخ علي جمعة في منصب الإفتاء (2003) كانت ذا دلالة، تجاوز النظام منطقه البائس في اختيار شيوخ أقرب للتكنوقراط إذا ما لم يكونوا مجرد موظفين ديين، وانحاز في اختيار الرجل لمنطق إعادة بناء مؤسسة الفتوي ورد الاعتبار لها ولو بقدر من التسامح مع الاستقلالية، وهو ما فعله الشيخ علي جمعة باقتدار فأفاد الدولة لكن دون أن يتورط في منطق التوظيف السياسي الذي تأكد أن إثمه أكبر من نفعه، خاصة مع حالة الترهل وانعدام الكفاءة التي ضربت غير قليل من مؤسسات الدولة. نجح علي جمعة الذي كان ينظر إليه كوافد علي المؤسسة الدينية وليس من صلبها فيما فشل فيه سابقوه ممن رأوا أنفسهم أكثر أصالة في الأزهرية، أعاد بناء دار الإفتاء وقام بتحديثها وأحدث في تكوينها وتدريبها نقلة كبيرة وفتحها علي أسئلة وتحديات جديدة وغير تقليدية، كما أبعدها عن فوضي الفتوي وعشوائياتها، وأعاد لها هيبة كانت قد أوشكت علي الضياع.. ساعده في ذلك عتاد وعطاء فقهي ومعرفي نادر بين مشايخ هذا الوقت، وخبرات وتجارب دعوية وثقافية إسلامية تمتد قرابة الأربعة عقود!
باختيار الشيخ أحمد الطيب شيخا للأزهر يمكن أن نتوقع أن الدولة استفادت من تجربة الإفتاء ولكن علي مدي أوسع وأعمق يوازي أهمية مشيخة الأزهر وما لها من تاريخ ورمزية ليست لمنصب المفتي، ليس في الأمر مجاملة إذا قلنا أن الطيب كان الاختيار الأنسب بما يمتلكه من مؤهلات كلها تجعلها اختيار المرحلة، بالمعني الإيجابي والدقيق للكلمة: فهو أكاديمي مقتدر ومحل اعتبار وأستاذ في العقيدة والفلسفة يعطي للمنصب بعدا أكثر جدية وصورة تناسب العالم، كما أن له رصيداً من الانفتاح علي الغرب منذ دراسته في فرنسا وعمله فيها، وما زال الرجل يكتب ويترجم من الفرنسية ويتقن معها الإنجليزية أيضا، وهو انفتاح موزون لم يتعثر صاحبه بسببه في فهم المجتمع وتضاريسه وقضاياه كما تعثر حمدي زقزوق في وزارة الأوقاف التي دخلها قادما من مدرسة الاستشراق الألمانية وما زال يحارب طواحين الهواء بعد أن أضاع عهده في مشروع الأذان الموحد الذي يختصر بؤس الرؤية النخبوية للإصلاح الديني!. ينحدر الطيب (ولد 1946) من عائلة كريمة في الأقصر لها تاريخ في العلم والتصوف في مجتمع تقليدي، وما زال يحافظ علي هذا التقليد ولم ينقطع عنه، مازال يحضر في دوار العائلة ويسمع مشاكل أهله وقريته وأهل الطريقة ويحلها، إن هذا الامتداد هو ما يعطي لانفتاحه معني، إنه امتداد لعقد من المشايخ والعلماء الأزهريين كان منهم الشيخ محمد عبد الله دراز الذي كتب بالفرنسية أهم أعماله (دستور الأخلاق في القرآن الكريم) وكان آخرهم الإمام الأكبر عبد الحليم محمود. وأهم ما في الرجل أنه ليس من مدرسة التكنوقراط الأزهريين، بل تسكنه روح أزهرية وولاء للمؤسسة التي يبدو أنه يمتلك تصورا ورؤية لموقعها ودورها، ولديه مشروع لاستعادة دور الأزهر كمركز للتدين الوسطي المعتدل المعنون بالأشعرية والتصوف والتعددية الفقهية.
ما زال الرجل يتلمس خطواته في موقع المشيخة ولم تمض عليه إلا أشهر معدودات (19 مارس 2010) ؛ لكن يمكن استقراء وفهم مشروعه، وأولي خطواته نحو إعادة ترسيم الحدود بين الأزهر والسلطة وبين الأزهر والفاعلين الدينين وبين الأزهر والعالم. كان الطيب عضوا بلجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم، وبمجرد اختياره شيخا للأزهر أعاد ترسيم العلاقة بالسلطة ليس لجهة الانفصال عنها أو الاصطدام بها وإنما لجهة التمايز فقط، استقال من موقعه الحزبي ولكن بعد الرجوع إلي رئيس الجمهورية: رأس الدولة أو ولي الأمر، إن الرجل يعرف أنه لا يمكن أن يكون شيخا للأزهر بنفس موقعه الحزبي، لكنه ابن لمؤسسة الأزهر التي لم تنفصل يوما عن الدولة المصرية أو تتمرد عليها. إنه فقط إعادة تعريف للأزهر ضمن الدولة ونقله من الإلحاق السياسي السلطوي إلي قلب الدولة نفسها.
وفي مواقفه السياسية تظهر هذه الرؤية التي تعيد ترسيم علاقة الأزهر بالسياسة وتبدو استعادة للخبرة التاريخية السنية، رفض الفتوي في مسألة جدار غزة الذي كانت قد قامت بسببه معركة فتوي بين الشيخ يوسف القرضاوي وبين المؤسسة الأزهرية نهاية عهد الشيخ طنطاوي رحمه الله الذي رد علي فتوي التحريم بفتوي تقول إنه حلال وأكبر الحلال! قال الشيخ الطيب إنها أمور لا يصلح أن يفتي فيها الفقيه الذي ستغيب عنه معطيات عسكرية واستراتيجية وسياسية لا علم له بها. إنه موقف دال يعيد التمييز بين الديني والسياسي بمنطق الخبرة التاريخية الإسلامية السنية علي الأقل التي شهدت هذا التمايز وليس بالمنطق العلماني الذي يستبعد الدين من أمور الدنيا. وهو حين يدخل بالأزهر في السياسة يدخل به كجامع وموحد ورافع لقضايا الإجماع أو ما صار يعرف بقضايا الأمة: رفض التطبيع مع إسرائيل، رفض التورط في علاقات أو مواقف سياسية تفصيلية: زيارة القدس بتأشيرة إسرائيلية، لقاء مسئولين إسرائيليين.. إلخ وفي القضية الفلسطينية دعم المصالحة عموما والفتوي بوجوبها دون تفصيلات تفسر لمصلحة فصيل سياسي علي حساب غيره..
ويعيد الطيب ترسيم علاقة الأزهر بالعالم من خلال انفتاح واسع وواثق يلتقط حاجة الأزهر لهذا الانفتاح لدعم كفاءته العلمية وقدرته علي ملاحقة العصر وكفرصة للتمدد بخطاب الاعتدال الإسلامي الذي يمثله، مع ثقته بأن الحاجة متبادلة خاصة مع تفاقم مشكلات الاندماج والتشدد الإسلامي التي جعلت دوائر علمية وسياسية غربية كثيرة تتجه للأزهر كمركز للوسطية ومواجهة تيارات الغلو والتشدد الديني، في هذا الصدد كانت رعاية الطيب، مؤخرا، للتعاون مع المجلس الثقافي البريطاني الذي أسهم في دراسة وتدريب عدد من طلاب الشريعة وفي سعيه لإنشاء مركز بالأزهر لدراسة الإنجليزية، ودفاعه القوي عن التعاون مع بريطانيا في هذا الشأن.كما يعيد الطيب ترسيم العلاقة مع الفاعلين الدينيين الآخرين، تجاوز الرجل في علاقته بجماعة الإخوان أزمة ميليشيا طلاب الأزهر التي وقعت أثناء رئاسته الجامعة وكان موقفه فيها صارما، وتمكن من احتواء المعارضة الشرسة والحادة من جبهة علماء الأزهر التي لم يمنع حلها قانونيا وإبعاد رموزها عن الجامعة في منعها من خوض حرب شرسة ضد سلفه الشيخ طنطاوي، ووصل الأمر إلي ما يشبه المبايعة من الجبهة للطيب أمانا أكبر تقر بقيادته الدينية، كما كان موقف الطيب من الشيخ القرضاوي أكبر مرجعية سنية خارج الأزهر بالغ الحكمة حيث أعطاه منزلته وأقر له بمقامه بشكل أعاد لمشيخة الأزهر الكثير من هيبتها ووقارها دون أن يغير من موقع الشيخ أو المشيخة الفكري والعقدي، كمؤسسة أشعرية تمثل إسلام الدولة. يمكن الاسترسال كثيرا في مؤشرات عودة المؤسسة الدينية، لكن أن هذه العودة لن تمر إلا بمعركة كبيرة لإعادة تحديد التيار السائد في التدين والفاعل في الحالة الدينية، وهي معركة سيكون عنوانها الأبرز مواجهة المد السلفي الوهابي الذي بلغ منتهاه، وهي معركة يتوقف علي نتيجتها مصير الحالة الدينية في مصر لكنها لن تقتصر في حدودها عليها بل ستمتد لكل العالم السني ومؤسساته الدينية خصوصا في مراكزها التاريخية (مصر والمغرب والشام وتركيا والهند)، وهو ما بدا واضحا في المؤتمر العالمي الذي رعاه الشيخ (8-11 مايو 2010) عن الإمام أبي الحسن الأشعري وشارك فيه كل خصوم السلفية في العالم الإسلامي السني.. إن عودة أخري للأزهر قد لا تكون ممكنة إلا بإعادة تجديد أطروحته العقدية والفكرية وهو ما سيخلق صداما لا مفر منه مع التيار الأكثر نفوذا ودينامية في العالم الإسلامي: «السلفية».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.