كان هذا في الندوة التي أمضيتها في معرض الكتاب بالإسكندرية. ذهبت إلي هذه الندوة متعبا من أشياء خاصة وأشياء عامة لا تنتهي وكنت أعرف انني سأجد شيئا من الراحة والبهجة فيها، وهي ندوة طلبها مني الدكتور خالد عزب مسئول الإعلام بمكتبة الإسكندرية والمحرر العام لمشروع ذاكرة مصر المعاصرة وهو المشروع الذي صدرت عنه كتب كثيرة شديدة الأهمية توثق للصحافة والقانون والدستور والزعماء والاحداث الكبري وأشياء كثيرة، تعاونه في ذلك لجنة تمتد من الإسكندرية إلي القاهرة من أبرز الكتاب والمفكرين والباحثين. كانت الندوة عن روايتي الاخيرة "في كل اسبوع يوم جمعة" تنتهي بالتوقيع علي النسخ التي مع الحاضرين من رواياتي عموما وهو تقليد سنوي تفعله المكتبة مع الكتاب. كنت اعرف انني سأتحدث ليس عن روايتي ولكن عن أكثر رواياتي ومن ثم عن الإسكندرية ومن ثم أيضا عن الوطن فأنت في الندوة رهن اسئلة الحاضرين. وكنت أعرف أنها ستكون ليلة جميلة فلقد سبقتها إعلانات كثيرة أما علي الفيس بوك فلقد فعل الشباب الكثير من أجل الدعوة لها وعلي رأسهم القاص الواعد النابه محمد الوزيري والكاتبة الشابة سارة حجازي اللذان يغمراني دائما بمحبتهما.. لقد جاء إلي الندوة شباب كثيرمثل محمد ثابت صاحب الموقع الذي يحمل ويمور بالأفكار والموضوعات المستنيرة التي تحاول أن تحقق شيئا من التقدم لهذا وكذلك شباب أصغر مثل هبة خميس ووسيم المغربي وياسمين فيصل والشيماء حامد وشريف أنور وبعض أصدقائي القدامي من كتاب الإسكندرية وأدار الندوة الكاتب الجميل منير عتيبة وتحدث فيها الناقد واستاذ الجامعة المحترم الدكتور سعيد الورقي صديقنا القديم في الاسكندرية وكاتب القصة الذي لا يعتني بنشر القصص في أماكن كبيرة لأنه منذ عرفناه أواخر الستينيات في قصر ثقافة الحرية ونحن جميعا شباب وهو يري أنه يكون سعيدا في الاستغناء عن أي شيء. كنت انا الذي طلبت ان يكون هو ناقدي الليلة لأنه اوحشني كثيرا ولأنه صاحب ذائقة جميلة للادب واستاذ حقيقي رغم اختياره البعد عن الأضواء ولقد حدث. تحدث في جماليات النص أكثر مما تحدث في موضوع النص وهذا هو النقد المؤثر حقيقة في رأيي دائما إلا أن الوقفات القليلة عند معني النص أثارت اسئلة مهمة وعلي رأسها حديثه عن إحدي شخصيات الرواية ذات التفكير الوجودي والعبثي التي تري ان الزمن لا يتحرك ابدا وما نظنه حركة للزمان والمكان هو من صنع الإنسان نفسه وكان التعليق الأول بعد انتهاء الحديث النقدي من أحد الحاضرين مباغتا لنا في البداية ثم فكرت أنه طبيعي وكان علي أن اتوقعه. أما التعليق الذي بدا صاحبه حقيقة علي درجة كبيرة من الاحترام فهو أنه لا يتفق مع كلام الناقد ولا المؤلف لأن الزمن والمكان هما من صنع الله ولا يجب أن يقول أحد غير ذلك واعترض صديقي الناقد علي اقحام الدين في الأدب لكني رأيت الرجل يتحدث باحترام كما قلت علي غير عادة المتحدثين حين يقحمون الدين في أي شيء ومن ثم اخذت التعليق ورحت اشرح له بهدوء أن الرواية غير المقالة وما في الروايات دائما هو شخصيات تحمل أزمات روحية دائما وأن ما تقوله الشخصيات عن أزماتها لايعني رأي المؤلف ولكن يعني تصوير الأزمة وأن الروايات لا تعني بالشخصيات السوية لأن الأصل أن يكون الناس أسوياء لكن الفن عموما يعني بالشخصيات غير السوية حتي يتجاوب معها القارئ سلبًا أو إيجابًا يتعاطف معها أو لا والمهم في ذلك كله أن تكون شخصيات فنية تتحدث بلغتها هي وليس لغة الكاتب وهكذا حتي بدا الرجل مقتنعا وسعيدا وخاصة أنني في اجاباتي عن الاسئلة الأخري وجدت نفسي اتحدث عن التغيرات التي جرت في حياتنا وكيف افتقدت مدينة أخذت شهرتها في التاريخ من التسامح وتعايش الاجناس والديانات إلي مدينة تكاد تكون وهابية لا تختلف عن سائر المدن المصرية واعني بها طبعا الإسكندرية . ولاحظت أن حديثي عن الإسكندرية التي عرفتها في صباي وشبابي حتي بداية السبعينيات كان مثل السحر أو كأنه حديث قادم من كهف مسحور فكل الشباب الجالس لم ير شيئا من ذلك ولم يعد له من الإسكندرية القديمة غير المباني في المنشية ومحطة الرمل وبحري وربما اندهشوا أيضا حين تحدثت عن بحيرة مريوط التي كانت تلطف من جو الاسكندرية مثل البحر تماما والأجزاء الرهيبة التي ردمت منها وتحولت إلي مصانع كيماوية وبترولية وملاه ومطاعم ومولات مثل منطقة الداون تاون حيث كارفور .لقد ولدوا وشبوا وسط إسكندرية أخري وكلامي مثل الافلام القديمة وتوالت الاسئلة فسألت الكاتبة الشابة هبة خميس لماذا لا يفعل الكتاب الكبار ما افعله انا معهم من تواصل علي الفيس بوك وشرحت لها انه الوقت ولا شيء آخر وانا نفسي بدأت أباعد بين مرات دخولي علي الفيس بوك لأن الوقت لا يكفي فالواحد في بلادنا حين يتقدم في السن يزداد تعبه ولا يجد الراحة في بلدنا وبعدها كان سؤال عن ارتفاع سعر الكتب ولم اجد ردا غير أن الناشرين يتحدثون عن النسبة العالية التي يحصل عليها الموزعون والتي تصل احيانا إلي خمسين في المائة. لكن هناك مطبوعات الدولة ومطبوعات مكتبة الأسرة وكدت اقول والمكتبات العامة فتذكرت أن معظمها للأسف لا يقتني كل ما ينشر فهناك دائما لجان فحص تري في الادب فحشًا لا يجب أن يكون في المكتبات وتجاوزت هذه النقطة لاني لم أشأ أن يكون السواد كبيرا وسألني الكاتب الشاب وسيم المغربي وله مجموعة قصص تحمل عنوان محاولات للابصار. لماذا غادرت الإسكندرية مبكرا قلت ضاحكا لم يكن هناك ذلك الوقت تليفونات تعمل وبالطبع لا موبايلات ولا انترنت ولا صحافة فكنا نحن الأدباء اعضاء نادي الادب في قصر ثقافة الحرية نمضي وقتنا نلعب الطاولة ونأكل عند محمد أحمد ونجلس علي البحر ونعود سعداء والعمر يمضي فقلت لهم سأذهب للقاهرة حيث للنجاح أسباب وللفشل أيضا أما هنا ففشل الهي لا مفر منه وبعد هذا العمر لم استطع ابدا أن احب القاهرة واحسد زملائي الذين بقوا وكتبوا وابدعوا. هكذا قدر الله وكما شاء فعل. انتهت الندوة التي طال وقتها وطبعا لن اتحدث عن كم وكيف المعجبين الذين تحدثوا عن محبتهم لأعمالي لأن هذا لا يليق وخرجت وفي روحي فرح ونشوة وسعادة بهذه الأسماء السكندرية الشابة وغيرها وعدت حاملا مجموعة قصصية فاتنة للكاتبة الشابة الشيماء حامد قرأتها في صباح اليوم التالي وسأتحدث عنها الأسبوع القادم لأنها تستحق الحديث وعن جدارة.