أتذكر وأنا صغير بمدرسة الفرير (دي لاسال) بالظاهر أن المشرف علينا كان اسمه الفرير بول (أي الأخ بول باللغة الفرنسية)، ولقد كان طويل القامة.. بما يترجم عندنا كأطفال حينذاك بالرهبة والخوف والفزع منه. وكان مكتبه يحتوي علي العديد من (العصيان الخرزان) مختلفة الطول والسمك. أذكر أنه لم يضرب تلميذاً لكونه غير متقدم دراسياً أو ضعيفاً، ولكنه كان يضرب التلاميذ غير المنضبطين في الفصل سواء سلوكياً أو أخلاقياً.. أي من يتصرف بشكل غير لائق في الفصل أو من يتجاوز بالكلام ضد زملائه.. وهو ما كان يقوم به أمام الفصل كله.. ليكون ذلك التلميذ (عبرة) أمامنا جميعاً. ولقد كنا (نخاف) منه بالشكل الذي جعلنا حريصين جداً علي تصرفاتنا لكي لا ننال من حب فرير بول جانبا. ولقد كان الفرير بول يهتم كثيراً بمظهرنا وشكلنا العام.. وهو في ذلك يتجاوز مجرد الالتزام بارتداء الزي المدرسي المحدد.. للشكل العام بداية من نظافة أسناننا، ومروراً بربط أزرار القميص ونظافة (الجزمة)، وصولاً لتسريح الشعر وتقليم الأظافر. وهو ما جعلنا تدريجياً.. حريصين علي صورتنا. كما أذكر أنه قد علمنا أهمية أن نضع (الشرابات) التي نرتديها يومياً في المكان المخصص للملابس التي سيتم غسلها، ولا نتركها لوالداتنا.. احتراماً وتقديراً ومساعدة لها. إن كافة تلك الأمور هي التي علمتنا مبادئ الاتيكيت في سنواتنا الأولي حتي أصبحت تلك الأمور بعد كل تلك السنوات من ثوابت حياتنا اليومية، وهو ما يعود فضله.. إلي الفرير بول. تذكرت ما سبق.. بعدما أثير مؤخراً من جدل حول الموافقة أم الاعتراض علي عودة (الضرب) في المدارس. وهو سؤال ساذج يتجاهل حقيقة مهمة، وهي أن جوهر القضية ليس في ضرب التلاميذ بل في مدي مساحة احترام التلاميذ لمدرسيهم ومدي اعتزاز المدرس بتلاميذه وتقديره لهم.. لأن الضرب لا يؤكد الاحترام ولا يرسخ الثقة المفقودة. ما نحتاجه هو المدرس الذي يتعامل مع تلاميذه بحب علي اعتبار أنهم استثمار للمستقبل، والتلاميذ الذين يثقون في قدرة المدرس علي رفع قدراتهم بمعلومات وخبرات جديدة من شأنها ليس فقط أن تصل بهم إلي طريق النجاح؛ بل أيضاً إلي التفاعل مع المجتمع بشكل إيجابي. وهو ما نفتقده الآن بحيث تحول المدرس إلي مجرد موظف بدرجة تربوي بسبب سوء أحواله الاقتصادية التي تجعل جدوله الحقيقي يبدأ بعد انتهاء اليوم الدراسي وبداية جدول الدروس الخصوصية، كما تحول التلميذ إلي أداة مسلطة علي (رقبة) المدرس من خلال ما يمكنه أن يقوم به من الإدعاء الباطل عليه بالضرب وتحرير محضر له بقسم الشرطة.. مما يعرضه (للبهدلة). وهو ما جعل هيبة المدرس ومكانته عند بعض التلاميذ مجرد كلمة بدون مضمون أو التزام أخلاقي عليهم. نعم، يجب تحريم (الضرب) داخل المدارس، ولكن يجب وجود آلية واضحة للحفاظ علي كيان المدرس أمام تلاميذه. والله يرحم الفرير بول!