عاتبني متابع علي موقع (تويتر) لأنني في مقال الأمس (زمن رابسو وسافو) تجاهلت (أومو).. مسحوق التنظيف الثالث في عصر الفقر الذي عشناه في الستينيات والسبعينيات.. ومن ثم فإنني قد ظلمته.. ودفعًا للظلم.. ولأنني من أنصار العدل.. ولأنها كلها (في الفقر مساحيق).. ولأنني قد قلت بالأمس إنني سوف أكمل غدًا في رسم صورة البلد التي كانت عليها ردًا علي المتبترين الحاليين.. فإنني أعود اليوم بمقاربة للموضوع من مدخل (أومو). الجيل الحالي لم يدخن السجائر (فرط)، لم يدفع (بريزة) للبقال لكي يعطيه (ثلاث سجائر) من علبة مفتوحة.. حيث غالبًا ما يكون المشتري لها قد احتفظ بعلبة فارغة مهملة لكي يضع فيها سجائره (الفرط) لإخفاء وضعيته الاجتماعية والتدخينية.. لأنه لا يمكنه أن يشتري علبة سجائر كاملة بنصف جنيه. هذا الجيل لم يعش حدث اقتحام (البوزو) للسوق المصرية.. وهو عبارة عن كيس من المسليات بخمسة قروش كان وسيلة للتباهي بين الأطفال.. ولم يعرف شراء الروائح بالتقسيط.. ولا يوجد ما يمنع هنا من أن أذكر أن جارة لنا في حي الظاهر فرحت جدًا حين توظفت لأول مرة في حياتها.. إذ منحها أجرها المحدود الفرصة لكي تدخر في خمسة أشهر ثمن زجاجة (بارفان) من نوع (بروفسي) وسعرها وقتها 16 جنيهًا.. ثروة. طبعًا.. الناس لا تأكل سجائر والجوعي لا يتعطرون والفقراء ليس بين أولوياتهم أن يتسلي أطفالهم ب(البوزو)، لكن تلك بعض مظاهر السوق في مصر في نهاية السبعينيات وقبل أن يبدأ التطور الاقتصادي في البلد.. استنادًا إلي عملية بناء تاريخية لبنية تحتية لم تكن موجودة أصلاً.. ولم يكن ليقوم الاقتصاد بدونها. وأفهم بالطبع أن التوجهات اليسارية طعنت زمنًا طويلاً في ثقافة الاستهلاك.. ووصفت الانفتاح الاقتصادي بأنه (استهلاكي) وليس (إنتاجيا).. وقد استسلم كثيرون لهذا المعني.. ورددوه.. في حين أن الاقتصاد يقوم علي الاثنين.. الإنتاج والاستهلاك.. وأن السوق الحرة يجب أن تتاح فيها كل السلع.. وأن الناس من حقها أن تشتري.. وفي الزمن السابق قبل عصر مبارك كان كيس (البوزو) هو رفاهية الأطفال في مصر.. ودليل علي التقدم الاجتماعي. الصناعة تطورت.. عديد من ماركات السيارات تُصنع في مصر.. السلع البيضاء تقريبًا في كل البيوت وبما في ذلك من يدرجون تحت مواصفات الفقر.. أي الثلاجة والبوتاجاز والغسالة وما شابه.. لقد كان وصول خلاط العصائر إلي بيت مصري متوسط الحال حدثًا فريدًا. والصحيح بالطبع أن هناك أزمة مساكن سببها ارتفاع تكلفة البناء وزيادة مطردة في عدد السكان.. لكن قطاعًا عريضًا من الشباب يبني بيته وليس مضطرًا لأن يعيش في مساكن شعبية معروفة المواصفات.. ولم نزل نعاني من مشكلات توزيع الخبز.. لكنه موجود.. وليس هذا زمن يشابه وقتًا كان فيه (الخبز الأفرنجي) بمثابة الفاكهة. ويتضايق بعض الناس من أن الفاكهة لم يعد طعمها كما كان.. يحنون إلي زمن كانت فيه رائحة الشمام تعبر من نوافذ البيوت.. لكن الشمام كانت له رائحة لأنه الفاكهة الوحيدة التي يمكن أن يتناولها المصريون.. كان لكل موسم نوعان ليس إلا.. وتذهب إلي الفكهاني فتجد عنده صنفًا.. وإذا كنت (زبونا) فإنه يدخل بك إلي المخزن ليبيع لك سرا ما قد حصل عليه من المهربات.. كنا في الصيف نأكل شمامًا وبطيخًا.. والموز رفاهية.. والتفاح نوع من الافتراء والمغالاة.. وفي الشتاء برتقال ويوسفي.. وأبوفروة دليل علي اكتناز الثروة والعثور علي كنز تحت الأرض أو مؤشر فساد.. انظر الآن إلي ما تراه في الأسواق. كان مشهد غطاس المجاري عند الفجر يخرج من البالوعة عاريا لا يستر حتي مؤخرته وبالتالي مقدمته من المشاهد اليومية المتكررة، وكانت الماكينات المقيمة لرفع الفضلات السوداء من شبكة متهالكة للصرف الصحي في أحد الأحياء دليلاً علي أن هناك شخصًا مهمًا يعيش في الحي.. إذ لو اختفت الماكينة سوف تنفجر بحيرات العطن في الشوارع.. وفي كثير من أحياء القاهرة كان السقا قد اختفي.. لكن الأهالي كانوا يشربون من صنابير مياه عمومية تتصدر الشوارع.. وتتراص عندها النسوة بالطابور. ومن المؤكد أن من بين مشاكل القاهرة الآن انتشار العشوائيات، تلك مشكلة فظيعة لا تنفي وجودها عملية بناء 22 مدينة جديدة علي أرقي مستوي.. لكن الذي يتجاهله الكثيرون أن تلك العشوائيات تمثل مدخرات بالمليارات.. وإلا فكم تساوي مباني بولاق الدكرور التي بنيت في الثلاثين عامًا الأخيرة.. وكم مليونًا يعيشون فيها.. وهل لا توجد لديهم مرافق أو بنية أساسية؟.. رغم أن آباءهم أصروا علي البناء دون تخطيط بالمخالفة للقانون فوق ألوف من أفدنة الأراضي الزراعية.. وإذا ما اعترض طريقهم أحد يمثل القانون تظاهروا وتصدت لهم الصحف التي تقول إن البلد بدون بنية أساسية. الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الإليكترونى : [email protected]