قبل شهور من معانقة عامه المائة، رحل الشاعر والمفكر والناقد والفيلسوف اللبناني الفذ ميخائيل نعيمة، في الأول من مارس سنة 1988، ولا شك أن فرقاء الحرب الأهلية الطاحنة قد توقفوا قليلاً عن العراك، وارتفعت عيونهم إلي الجبل، فهناك عاش الرمز النبيل الجميل جل عمره في أحضان الطبيعة والبساطة، مخلصًا للإنسان في كل زمان ومكان، مترفعا عن مجرد التفكير في التمييز بين البشر علي أساس ديني أو عرقي أو جنسي، زاهدا في كل شيء إلا مراودة الحكمة واليقين، والتبشير بالسلام والتسامح، عبر مفهوم شامل تتحقق فيه وحدة الوجود. ما أعظم الأثر الذي تركه أدباء ومفكرو المهجر في الثقافة العربية، ولعل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي هم الأبرز والأشهر، ذلك أنهم حلقوا بأجنحة من الحب والصفاء غير المحدود، وجمعوا بين الثقافات المختلفة في نسيج واحد، وأخلصوا في الانشغال بالإنسان وقضاياه التي تتجاوز الهم المادي المباشر، فالإنسانية لا تكتمل إلا بهموم الروح وأسرار الكون الغامض. أضاف ميخائيل إلي المكتبة العربية عشرات الروائع، وكتب عن رفيق العمر جبران كما لم يكتب أحد، واحتفظ بشبابه الدائم إلي اليوم الأخير، فكأنه الصوفي المخلص الذي لا تغره الدنيا، ولا يتسع قلبه للتفاهات، ويترفع بصدق عن الصغائر والبذاءات. فكر عميق أصيل، ولغة سلسلة عذبة، وإحساس عارم بالحياة، وتعاطف مع ضعف الأحياء، ومرح يخاصم المرارة، وتطلع إلي ذلك الغد الذي يرتفع فيه الإنسان ويسمو، فيبرأ من أمراض التعصب وضيق الأفق المرذول المدمر. لا شك أن ميخائيل نعيم ليس كاتبًا ومفكرًا مرموقًا متميزًا علي الصعيدين اللبناني والعربي فحسب، بل هو أيضًا مبدع إنساني عالمي من طراز فريد. وإذا كان حظه من الشهرة أقل مما حظي به جبران، فإن المسألة عند فيلسوف الجبل لم تكن مطروحة علي هذا النحو، فليس من شاغل له إلا انتظار الإنسان الكامل غير المنقوص.. ويا له من حلم!