أحن كثيرا إلي أجواء الحارة المصرية في نهايات الستينيات من القرن العشرين، وأري فيها بكل سلبياتها عبقرية لم تنجح السينما المصرية، ولا حتي فن الرواية العربية مع الأسف ومن دون تجني في تصويره تصويرا دقيقا، يحاكي الواقع، دون الوقوع في فخ التبرير تبعا لنظرية الخير لازم ينتصر والبطل لازم يتجوز البطلة والتفسير.. والتنظير ( يعني الإرهاب مش لازم يكون مصدره العشوائيات). فجمال الواقع في خصوصيته؛ وبكل تأكيد فان حارة نجيب محفوظ ليست كحارة اسماعيل ولي الدين، وليست هي حارة كمال سليم في رائعة العزيمة، ولا صلاح أبو سيف في الفتوة وشباب امرأة، ولا طبعا هي حارة خالد يوسف في حين ميسرة..وكلمني شكرا العفو! ولكني أستطيع القول مطمئنا وكأني شارب اتنين لمون سكر مكنة كل ما ذكرت من أعمال فنية وأدبية، هي جزء من الحارة المصرية، ولكنها لا تلخصه ولا تستغرقه العبد لله دارس منطق.. ولكنه ليس المنطق المشوي بتاع سعيد صالح ، فحارة العباسية مختلفة عن حارة الشرابية الأولي أخرجت لنا نجيب محفوظ ومواهب أخري أدبية وفنية، فيما الثانية انتجت لنا الفنانة نجوم كورة ومواهب أخري فيما كان من مميزات حارة باب الشعرية أن أهدت الينا الموسيقار العظيم محمد عبد الوهاب.. وآخرين ولكل طعمه المميز. هناك سمات مشتركة.. نعم (أيوه يعني)، ولكن تستوقفني مشاهد الصياعة ولامؤاخذة واذا أردت أن تبحث عن مرادف لهذه الكلمة التي ربما لا تعجبك؛ فقل انها.. "الشقاوة" وان كنا جميعا نتفق علي رفضها. والشقاوة في الحارة في تلك الفترة كانت لها أصول وقواعد، وبروتوكولات ومعاهدات غير مكتوبة معظم الصيع لا يكتبون ، ولكنها كنصل سكين حاد مسنون، يفصل بين المسموح وغير المسموح، بين الأدب وقلة الأدب، حتي أن المراقب يندهش من أن الولد الصايع من دول، يقوم بأفعال خاطئة وحشة مثل من يسرق منهم؛ فهو لا يسرق من حارته ولا من الحي كله الذي ينتمي إليه، ومن يصطاد النسوان لغة عربية فصحي لا يقترب من نسوان حتته، بل هو يحميهن داخل وخارج المنطقة، اذا وجدها تتعرض للمعاكسة، ساعتها ليس أقل من مطواة قرن غزال للدفاع عن شرف صاحبة الصون والعفاف. ودور الحماية هنا مختلف عن حماية الفتوة في بدايات القرن الماضي، فالصايع لا مؤاخذة، لا يتقاضي إتاوة بل يفعلها محبة وأخوة وجدعنة. أتذكر أنني تعرضت لمشاجرة خناقة يعني مع زميل دراسة، وانتصرت عليه احنا كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة علي رأي محمد أبو سويلم فاذا بالواد العيل لامملي شوية صيع لأخذ حقه، فبقيت في المدرسة الإعدادي وكلفت زميلا بأن يبلغ ابن حتتنا الصايع فك الله سجنه وبعد وقت قليل جاء المدد.. صيع كثيرون يلفون أجسادهم بالجنازير، ودخل أحدهم المدرسة وأحضرني بالقوة لأقف امام الباب.. واللي ليه شوق في حاجة يوريهم نفسه! ولم يتعرض لي أحد بسوء في هذا اليوم ولا اللي بعده، بل فوجئت بزميلي المضروب يقول لي: خدني في شلتك! وهي تشبه خدني ف حنانك خدني، وحققت شهرة مدوية في المدرسة! مرة تانية.. صحيت من النوم علي أصوات هرج ومرج (مصطلح يستخدمه الكتاب الكبار للتعبير عن حالة الدوشة.. والدوشة كلمة يستخدمها الآباء للتعبير عن قرفهم من الأبناء)، وخرجت لأجد الحارة مغلقة بصوان (سرادق..مع ان صوان أحلي) كبير.. ايه الحكاية؟ أنا قلت، قامت الشلة كلها قالت: ده فرح ابنة جارتنا علي ابن عمها.واستطعت بنباهتي أن اكتشف أن الموضوع لن يمر ببساطة؛ فابنة جارنا تحب شاباً صايعاً، بل هو من كبار صيع حتتنا، وقد تقدم لخطبتها عدة مرات ورفض بضم الفاء والفرح أقيم علي عجالة لإبعادها عنه، ولكن أخبار الراقصات الدرجة الأولي اللي سمعنا عن تشريفهم للحي، غطي علي غلوشة التوقعات، كما أن حضور الفنان الشعبي الجميل الحاج محمد طه، الذي كنت أعشقه في رداء ابن البلد وطربوشه الأحمر والزر الأسود، ومعاه الفنان الشعبي البارز وقتها أبو دراع الذي غني للرئيس السادات وخصومه: احنا جبنا نوبل.. طيب انتو جبتوا إيه؟.. معاه حق برضه! جعلاني مترقب الفرح اللي هايشتغل بعد صلاة العشا.. وهذا منطقي؛ لأن الأفراح في ذلك الوقت ولا تزال كلها منكرات: حشيش وبيرة ونسوان علي شكل راقصات! بدأ الحفل الكريم، بصوت المذيع الداخلي عبر مكبر الصوت قوي، يعلن عن النمر التي ستشرف الحفل، تسبق أسماؤهم عبارة: نجم السينما والتليفزيون، قالها عن محمد طه وأبودراع والراقصتين بالفعل كانتا الراقصتين تستحقان ان تكونا من نجمات السينما والتليفزيون والبلوتوث أيضا! ثم خطف الميكروفون مكبر الصوت قوي، الشاب الصايع حبيب العروس وغريم العريسٌ، قائلا: الصياعة أدب.. والشقاوة مزاج.. أنا هارقص والراجل يحصلني!! بدأ يرقص و زجاجة البيرة علي رأسه، وثلاثة شباب يقلدونه.. وقف فوق كرسي خشبي ماركة العفي.. ثم وضع احد رجول الكرسي في فمه، ورفعه في الهواء وهو يرقص واحنا قاعدين، والثلاثة يقلدونه.. فجأة قفز في الهواء وتشعلق علي سور بلكونة لا يتعدي عرضه 15 سنتيمتراً.. وأحذ يرقص.. وزجاجة البيرة علي رأسه.. وفيما هو يرقص بانسجام، وشبه غياب عن الوعي، إذا بصرخة مدوية.. تبعتها صرخات وعويل..الراقصة أسرعت فغطت جسدها العاري ب" شال " أحمر، الراقص الصايع لم يسقط.. ولكن.. العروس أشعلت في جسدها النار..