فكرة الفيلم وجمالياته السينمائية داود عبدالسيد يبدع لغته السينمائية من خلال الربط بين مكونات المشهد السينمائي والحالة النفسية للشخصيات وما يعترض طريقهم من ظروف فمنذ اللحظات الأولي للفيلم تجد أنك أمام لغز يحتاج إلي تفسير فالزجاجة التي تتضمن في داخلها رسالة أصبحت أسيرة لأمواج البحر تتقاذفها تارة وتارة أخري تلقي بها بين الصخور تماماً مثل شخصيات الفيلم التي تعد في النهاية زجاجات إنسانية قد أغلقت علي أسرارها وصراعها ضد المجهول. في بداية الفيلم يلقي الصياد بالزجاجة إلي البحر بعد أن يكتشف أنها لا تحمل أية فائدة مادية إلا أن "يحيي" بطل الفيلم يلتقطها ويحاول فك شفرتها لأنه يدرك جيداً أنها تحمل مضموناً إنسانياً لشخص ربما يطلب المساعدة أو فتاة أرادت أن تخلد قصتها بعد أن داهمها الغرق، لكنها في كل الأحوال تحمل نداء بالاستغاثة وسرعة الانقاذ لمن يهمه الأمر، فالرسالة من وجهة نظري تطرح بعداً شخصياً شديد الصلة بمصير الشخصيات في الفيلم، كما أنها لا تغفل البعد العام لمجتمع مصري يشهد حلقة متجددة من أعنف تحولاته علي كل المستويات.. فالتغيير يضرب بقوة ليمحو وجه المدينة العريقة ويزيل صورتها المعمارية ليحل مكان التراث المعماري بعض المحلات والمولات التجارية وهذه النزعة الرأسمالية أصبحت معياراً للتعامل مع البشر الذين تحدد قيمتهم طبقاً للمصلحة المادية أما المشاعر فتسقط تحت الأقدام وتداس بالأرجل ويصبح الإنسان سلعة تباع وتشتري، لذلك فإن الرسالة تدق أجراس الخطر بعد أن داهمت القيم الاستهلاكية كل شيء. الفيلم كله يدور حول هذه الفكرة وما يلتبس بها من تداعيات لدرجة أن عين الكاميرا تكاد تتحسر علي روح البناء وزخارف الرومانية علي واجهات العمارات في الإسكندرية ومع موسيقي راجح داود تشعر بأنك أمام مرثية فنية يترك مرارة في النفس لأن الكاميرا مع بداية الفيلم تهبط من أعلي إلي أسفل لنجد أننا أمام عمارة "يحيي" في دلالة علي انقضاء الزمن الجميل وبداية التدهور وربما التغيير للأسوأ، لأن المجتمع المصري في الفيلم يعاني من تحولات جعلته ينتقل من النقيض إلي النقيض بما يعني أنه بدأ يفقد بعضًا من سماته الحضارية، فالرأسمالية الأمريكية كنمط حياة تغلغلت في نسيجه وطغت علي كل شيء، استقطبت الطبيب شقيق "يحيي" ليهاجر إلي أمريكا تاركًا وطنه بعد أن اصطحب معه زوجته وأولاده، واضطرار "فرانشيسكا" الإيطالية إلي العودة إلي بلدها لأن صاحب البيت يريد هدم العقار وتحويله إلي مول ضخم ووفقًا لقانون المصلحة تقرر "كارلا" أن تتخلي عن يحيي لأنها ستغادر مصر ومن العبث أن تنظر إلي الحب بدون أن يكون له فائدة مادية، حتي "الحاج هاشم" الذي يجسد دوره صلاح عبدالله هو نفسه تجسيد لقناع الغاية تبرر الوسيلة لأنه يصطاد الأسماك بالديناميت ويحقق مكاسبه من خلال تحطيم حياة الآخرين ويسعي للاستيلاء علي البيت بالقوة بعد أن يقوم باحتلاله فعليا، إلا أن أقسي مظاهر الرأسمالية علي المجتمع المصري هو تحول الإنسان إلي سلعة تباع وتشتري فالزوجة "نور" لا تري فرقًا بينها وبين المومسات لأن زوجها يرتبط بها في السر مقابل أن ينفق عليها ماديا ولا يراها إلا يومًا أو يومين في كل أسبوع حتي لا تشعر بذلك زوجته الأولي لكن "نور" التي تحمل اسم المومس في فيلم "اللص والكلاب" تتمرد علي هذه الحياة كما يتمرد "يحيي" الذي يقرر أن يواجه الظروف، ويفرض إرادته ويواجه مصيره، بعد أن شعر بالوحدة والقهر وضربته الحياة بأمواجها العاتية فالمجتمع لا يقدر دوره كطبيب بل يعاقبه علي تلعثمه بما يعني أن المظهر دون الجوهر هو المعيار الذي يحدد قيمة الإنسان حاليا وهذه انتكاسة كبيرة في منظومة القيم إلا أن يحيي الذي يدل اسمه علي إيمانه بالحياة وفرض نزعته الوجودية يقرر أن يغير واقعه ويتجاوز حيرته ويحدد مصيره رافضًا أن يبيع ذكرياته بأي ثمن لأن هذا يعني الموت وهو عاشق للحياة الأبدية ونفس الموقف بالنسبة ل"قابيل" الذي يجسد شخصيته محمد لطفي فهو يرفض إجراء عملية جراحية في المخ لأنه سيخرج بلا ذاكرة بما يعني انتهاء حياته الوجودية كإنسان له عقل وقلب ومشاعر وخبرات حياتية متراكمة لذلك يختار "التمرد" علي واقعه، وتتجه "نور" إلي نفس النتيجة بعد أن تتخلص من الجنين الذي يعتبر ترجمة لاستغلالها جنسيا لتبدأ حياتها مع يحيي بعد أن تبذل قصاري جهدها لتجعله إنساناً ناضجاً يعي حقيقة الواقع المأساوية. رسائل الحب تصل لأصحابها الفيلم يؤكد أن رسائل الحب فقط هي التي تصل إلي أصحابها فيحيي يتعلق ب"نور" قبل أن يعرف أنها صاحبة العزف الجميل الذي يهز قلبه ونور تفهم يحيي وتعرفه جيدًا علي الرغم من تهتهته وغموض كلماته لكنهما التقيا علي أرض مشتركة وتعاملا من خلال لغة تعرفها كل البشرية، تلك اللغة التي حزنت "فرانشيسكا" علي ضياعها وسيادة لغة جديدة اعتمدها الحاج "هاشم" تبحث في الشرع والدين عما يتوافق مع أهدافها ومصالحها لتضفي علي نفسها مسحة إلهية. نهاية الفيلم تتضمن في حد ذاتها رسالة بصرية فوسط الأسماك التي سلبت منها الحياة بقسوة الديناميت تواجه "نور" و"يحيي" نفس النزعة الإرهابية لإجبارهما علي ترك "الشقة". المخرج داود عبدالسيد يواصل ما بدأه في أفلامه السابقة مناقشًا فكرة المصير وهموم المصريين في بحر التغيير وشواطئه الوهمية، واختار البحر ليكون ممثلاً إضافيا إلي مجموعة الممثلين بالفيلم لأن مشاهده تعكس معاني ودلالات لا نهائية جعلتني أتذكر قصيدة "الإنسان والبحر" لبودلير والتي تعقد مقارنة عميقة بين الإنسان وصديقه اللدود فهما محاربان أزليان وكلاهما يمكن أن يحملك أو يغضب في وجهك أو يطيح بك في أعماقه السحيقة، لكن أهم ما في الفيلم يؤكد أن أبناء الوطن المخلصين لا يهربون مثل "كارلا" عندما نغرق السفينة بل يختارون "البقاء"، متمسكين بالروح وهو ما لا يفهمه أصحاب النزعات الاستهلاكية، فنور ويحيي عندما يستلقيان علي ظهريهما في المركب بنهاية الفيلم لا يعني ذلك أنهما قد ماتا مثل الأسماك بل أحياء لأنهما يرفضان التسليم والخضوع. داود عبدالسيد يجيد استنطاق الصورة وجعلها أداة لإثراء الفيلم بدلاً من اللجوء إلي المباشرة اللفظية وأريد أن أوضح أن الفيلم سجل حافل بالجماليات السينمائية التي لا يمكن الإحاطة بها لأنه عمل فني لا توازي قيمته إلا مشاهدته مرة ثانية، إلا أنني أؤكد أن ضياع الشخصيات في الفيلم والنداء الخفي بإنقاذها هو رسالة الفيلم الحقيقية. يتحكم داود عبدالسيد في البناء الدرامي للفيلم ويوجه نحو دلالته النهائية لأن حركة الشخصيات في الفيلم عبارة عن دوائر متداخلة تتلاقي خلالها علاقاتهم وأزماتهم في سيمفونية شديدة الدقة والحساسية، واختار المخرج أن يقوم البعض بدور الراوي ليعيدنا إلي أجواء السينما الكلاسيكية. رسم داود عبدالسيد خلفية غنائية نقلتنا لأجواء أم كلثوم بمقاطع من أشهر أغانيها خلال أحداث الفيلم وتم اختيار هذه المقاطع لتناسب الحالة النفسية للشخصيات في صراعها وانكسارها وحيرتها وسط أمواج الحياة القاسية ودخلت أصوات أخري علي الخط الدرامي للفيلم ليضمن داود عبدالسيد نوعا من التنوع والتعددية لتلتقط آذاننا صوت فايزة أحمد ومحمد قنديل وسيد مكاوي، إلا أنهم ينتمون لهذا الزمن الجميل الذين أصبحوا رموزا، بينما ضاعت أصواتهم في زحام الفوضي الغنائية الحالية وكأن المخرج يريد أن يحتفظ بهم في ذاكرة البحر قبل أن تغطي ذكراهم أمواجه المتلاطمة، لذلك جاءت الأغاني جزءًا من النسيج الدرامي للحدث علي الرغم من أن الأغاني كانت مجرد خلفية شفافة تغلف الحدث ولا تحجبه ويبدو أن تجسيد ذلك بمهارة فائقة انعكس أيضا علي الإضاءة والألوان فهما قد لعبا دورا كبيرا في خلق الدلالة الدرامية علي وجوه الشخصيات بما يكشف الأجواء النفسية لهم. الأداء التمثيلي وضع "آسر ياسين" موهبته وطاقاته الفنية في هذا الفيلم لأنه أجاد التحكم في خيوط الشخصية التي يجسدها وأمسك بالشعرة الدقيقة التي تؤهله للإتقان والابتعاد بالتهتهة عن محيط الكوميديا التي يمكن أن تنسف الإيقاع الدرامي للشخصية من أساسه لولا الوعي الكامل للممثل بحدود الدور وأزمته وشكله الخارجي وصراعاته الإنسانية ولا يمكن أن تقوم بأي عمل آخر وأنت تشاهد آسر وهو يمثل لأنه يقول بتعبيرات وجهه في لحظات ما لا تقوله الكلمات كما أنه يؤدي التمثيل كفعل وكرد فعل في فيض من المشاعر والانفعالات، والفيلم كله سلسلة من المشاهد الجبارة أهمها ثورته الغاضبة مقابل ثورة البحر والمشهد الذي يحاول خلاله إقناع "نور" بأن تأخذ المال لتعيش معه وانفعاله بالموسيقي وظهور ذلك علي قسمات وجهه. إن دور "بسمة" في الفيلم هو إعادة لاكتشافها لأنها بدت حاضرة في المشاهد بقوة واعتلت قمة الأداء بمنتهي النضج رغم صعوبة الشخصية وكثرة روافدها المركبة وتعدد أزماتها أن وجودها مع آسر ياسين في هذه الهارمونية المتناغمة يرجع الفضل فيه إلي داود عبدالسيد نفسه الذي أظهر في شخصيتها الفنية جوانب غير معلنة وجعلها علي مستوي فني عالٍ وإدارة الممثلين هذه وصلت بالفيلم إلي أعلي درجات إجادته لأنها اختارت لكل دور ما يناسبه فلا يمكن أن تقوم بدور "فرانشيسكا" إلا المخرجة نبيهة لطفي ولا يمكن أن تقوم بدور "كارلا" إلا سامية أسعد التي أدت الدور بطريقة السهل الممتنع واقتطفت ثمار الإعجاب من قلوبنا، خاصة أن الدور جريء في ملامحه ويحتاج لنوع من الثبات والثقة. أما محمد لطفي فأدي دور عمره في "رسائل البحر" ولابد أن ينال عن هذا الدور "جائزة" لأنه اقتحم قلوبنا بصفائه النفسي وملامحه المعبرة واستطاع أن يرسم الانفعالات علي وجهه بدقة متناهية وكان من حق داود عبدالسيد أن يسلط عين الكاميرا علي وجه محمد لطفي لأنه يثق في أن هذا الفنان لن يخذله فلا يمكن أن تخفي إعجابك بقدراته التمثيلية وهو يبكي علي شاطئ البحر وقد غطي المطر ملامحه وكأن الدموع تجري علي وجهه بكامله، أما مشهد التمسك بتلابيب الذاكرة قبل فقدها فقد أداه لطفي بحرفية كبيرة وبأطياف من خفة الدم لأنه لو زاد من دراميته لأصبح مشهدا مأساويا قاتما، حيث راح يوصي "مي كساب" بأن تكون قلبه وعقله إذا ما خانه الزمان وفقد الذاكرة. فك الشفرة الجينية للإنسان المصري وقدرته علي تجاوز الصعاب أصبح مطلبا سينمائيا حادا ل"داود عبدالسيد".. إن استمرار هذا الشعب رغم ما يحيط به من تغيرات هائلة جعلته يجيد التعامل مع الكوارث وينتصر علي كل عوامل القهر، فالفيلم نداء استغاثة لمن يهمه الأمر.