لايكفّ واقعنا الاجتماعي الذي نعيش فيه عن توتيرنا وإقلاقنا والمساس بحاضرنا ومستقبلنا. وفي ضربة جديدة تلقيناها من حيث لم نحتسب أن معهد الأورام الذي يتردد عليه ما يقرب من 800 مريض يومياً. والذي كان يشهد منذ عام 2006 أعمال ترميم وتنكيسا لمبانيه الثلاثة "الشمالي والأوسط والجنوبي" دون التوقف عن استقبال المرضي أو علاجهم، ظهرت بمبناه الجنوبي -أحدث مباني المعهد إنشاء- عيوب فنية خطيرة قد تؤدي إلي انهياره واستحالة علاج تلك العيوب دون إخلاء المبني بالكامل. يجري النائب العام تحقيقا لمعرفة أسباب تصدع هذا المبني المكون من 13 طابقا. يشاع أنها بنيت بمواد بناء مغشوشة ووفق تصميمات هندسية غير مطابقة! لاتواجهنا كارثة انهيار المبني وبحث الأسباب فحسب، إنّما المطلوب الأهمّ هو إخلاء 13 طابقا يضم طابقين بهما 6 غرف عمليات وعناية مركزة والتعقيم وطوابق للاقامة الداخلية وتضم نحو 380 سريرا وطوابق أخري ذات وظائف متعدّدة. هذا المبني مقام من 20 عاما فقط، ومع ذلك ضربت فيه الشقوق، والشروخ، وأصبح آيلا للسقوط، بينما المباني المقامة من الستينات، بل ومن قرون ماتزال قائمة، طبعا هناك فساد! لن أملّ من تكرار النداء بتوزيع تأمّلاتنا ومشاركاتنا وقراراتنا.. أدعو إلي التكاتف لتجاوز الإشكاليات التي تفرضها الوقائع المؤلمة. لايكون هدفنا هو كسب رهان غرائزي تقوم به الأصوات المشاغبة التي تعمل علي مضاعفة سعادتها وثرواتها في "بورصة الجماهير". وكأنّها تشعر براحة ضمير وقد واتتها المصائب تقع علي رءوس الناس بكلّ ماهو كفيل دون أي تحريض بأن يقضي علي راحة بالنا واسترخاء أذهاننا. وأخطر ما في الأمر ليس هو هذه التعبئة المريحة من كلّ لون، إعلامية وسياسية ودينية، لابدّ أن نندهش لأنّنا لسنا عبطاء بلهاء كما دعانا أن نكون الإعلامي جمال الشاعر في أحدث إصداراته "إعمل عبيط"! لقد راقب سلوكنا اليومي وتصرّفاتنا العملية وعلاقتنا بالحكومة وماتفعله ازاءنا، من محو الأمّية إلي الدروس الخصوصية إلي البطالة إلي إهدار المال العام ولم ينس ازدحام القاهرة ولاقانون المرور وشنطة الإسعافات الأولية وحتّي أفكارنا وعواطفنا وانفعالاتنا! وهالته "كراكيب البروباجندا والفرقعات" تجعل الاستعباط هو نصيحته المثلي، لمواجهة ثقافة التحايل ولعبة "كله يضحك علي كله". يجيء قرار إخلاء المبني "الأحدث" للمعهد القومي للأورام، خشية انهياره علي المرضي، وسط احتفالات البلاد بفوز المنتخب الوطني لكرة القدم، أذكّركم أيضا بنجاح المجتمع في إقامة المستشفي 57 لرعاية مرضي سرطان الأطفال الذي تتمّ التعبئة يوميا عن محاسنه فنحجب نقد المساوئ المتغلغلة في مشاريع الرعاية الصحية للفقراء . حين نقارن بين مهمّة المعهد القومي ومستشفي57 وإن كان المريض في الأخيرة يعرض عليه المنيو ليختار طعامه !كما يسهل أن ننبهر ببرنامج القاهرة اليوم وعمرو أديب يبني في ساعتين علي الشاشة، الستمائة بيت التي جرفتها السيول فشرّدت سكّانها في أسوان ! وكذلك برنامج واحد من الناس وعمرو الليثي يختار من يقع عليه الحظّ ممّن لامأوي لهم، لاستلام شقّة تبرّع بها أحد رجال الأعمال.. والأمور كلّها سلبية وإيجابية تلقي أضواء كاشفة علي نماذج "أكسدة" ترعي في جسد مصر طوال ثلاثة عقود علي الأقل. والمجتمع والدولة في ظروف صعبة علي رأسها ارتفاع معدّل النموّ السكّاني، يحاولان صنع وتقديم مضادات الأكسدة وسط تباعد لايمكن إنكاره بين السياسي والاجتماعي. وعلي الرغم من ثمانين مليونا من البشر وآلاف المدارس وعشرات الجامعات ومعرض الكتاب ومكتبة الاسكندرية والصحف الخاصّة والشاشات والمسلسلات والأفلام وكل ّتفصيل تاريخي وثقافي وحضاري، فمجتمعنا يجد نفسه ضعيفا عن معرفة دور كلّ فرد فيه في كلّ مايراه وفي كلّ مانعيشه..شيء واحد يجيد السيطرة عليه آلية التكاثر! وحين صغنا المواطنة كمادّة في الدستور،كان الأصوليون المدافعون عن التعاليم المقدّسة والنقاء الأخلاقي قد حاصروا جهاز مناعتنا، لاعلي جبهة تشكيل حكومتهم فحسب، وإنّمامغازلة جمهور فرغت آذانه ممّا يفتحها علي كلّ تطوّروعلم وفكر وأخلاق. والأمر الأخطر أنّ اللعب الصارخ باستثمار الدين لغايات سياسية أو أغراض شخصية، والذي بلغ حجما واسعا ويحاول الآن التخفّي في عباءة ديمقراطية، يدور الآن وسط سلبيات كثيفة يتلاشي فيها وكثيرا ماتختفي الحدود بين الحياد والتواطؤ. وبين أيدينا الآن وأمام أعيننا يسقط المواطن والمواطنة، وتتفشّي اليد السفلي، لايفرّق البعض بين بناء قدرة المجتمع علي تنظيم نفسه وبين تنمية مواهب التسوّل.. موائد الرحمن، وشقّة ياغني للفقير،وعلاج ياقادر للمريض البائس وأرقام حسابات للتبرّع.. من يزايد؟ هذه علاقة أخري وإن دفعتنا إليها الضرورة، تستوجب الحذر من إخضاع المصريين لقرارات يمسك بها المحسنون. الدولة هي جهاز المناعة، علينا أن نعرف كيف نصلحه ونقوّيه ليخطط وينفذ ويراقب. ألم يصنع رجال الأعمال؟ فما باله يعجز أن يكون للدولة فكرها الاقتصادي والاجتماعي الحاسم، ليس للفقراء، بقدر ما هو للكتلة الغالبة من الشعب.