تقابلت مع صديقي القديم مسعود سألته عن أحواله فحمد الله كثيراً وقال أحوالي لا تهم كثيراً ولكن ما يجب أن يشغلنا كثيراً هو مستقبل هذا الوطن.. مستقبل أبنائنا.. إلي أين نحن ذاهبون؟ قلت له ودون تفكير.. مستقبل أولادنا لابد أن يكون بأيدينا وطريقنا لابد أن نختاره نحن ودون وصاية من أحد، يا صديقي علينا أن نعمل ونتفاني في العمل بصدق وإخلاص علينا أن نكف عن الكلام ونقلع عن الشكوي ونتسلح بالأمل والتفاؤل وحسن الظن بالله فلا يجب أن نسمح للإحباط بأن يتسرب إلينا فيقضي علي البقية الباقية من الأمل المتناثر هنا وهناك. قال لي صديقي.. هذا الأمل وهذا التفاؤل أنت الذي تردده بمفردك في بلاهة لا أدري لماذا، وتابع في عصبية شديدة.. منذ منتصف الثمانينات تقدر تقوللي ماذا حدث للتعليم في مصر نفس الكلام ونفس الخطط ونفس الاستراتيجيات ونفس التصريحات وحتي نفس الهجوم بنفس المفردات منذ أيام د.فتحي سرور إلي أيام د.الجمل وما حمل وحتي هذا الوزير الجديد أحمد زكي بدر.. الدروس الخصوصية هي هي المناهج هي هي الفوضي والتسيب هو هو.. لم يتغير شيء علي الإطلاق إلا أسماء الوزراء. قلت له يا صديقي إما التفاؤل وإما الموت، إن إرادتي المتفائلة ستتغلب حتما علي عقلي المتشائم.. ودعت صديقي وانصرفت وأخذت أتذكر تلك الأيام التي كانت تجمعنا كان مسعود ورغم نحافته ونحالته يحمل من الهموم ما يعجز عن حمله أعتي الرجال. كانت مصروفات الدراسة هي شغله الشاغل وكان الحل السحري المضمون أن يعمل زميلي مسعود يوم الجمعة من كل أسبوع في أحد مصانع الطوب اليدوي المنتشرة في المنطقة التي يسكن فيها ويستطيع أن ينفق من الجنيهات التي حصلها من عمل يوم الجمعة علي أسبوع دراسي كامل. كان مسعود متفوقاً في جميع المواد الدراسية.. لكن مدرس اللغة الإنجليزية كان يري أن مسعود يحتاج إلي درس خصوصي وبالطبع ومن عاشر المستحيلات أن يذهب مسعود ليتعاطي ذلك المنكر المسمي بالدروس الخصوصية لا لشيء إلا لأنه لن يجد الخمسة جنيهات ثمن الحصص الثمانية لدرس اللغة الإنجليزية، المدرس كان يملك من الأساليب والأدوات التي أجبرت مسعود علي أن يذهب مجبراً إلي الدروس الخصوصية. بدأ مدرس اللغة الإنجليزية يمارس الضغط علي مسعود وذلك بأن يسأله أسئلة صعبة جداً أو أسئلة ليست لها إجابات حتي يظهره أمام زملائه بمظهر التلميذ الخائب الذي يستحق الضرب والعقاب والتوبيخ.. وبالفعل كانت حصة اللغة الإنجليزية عبارة عن عقاب للتلاميذ الذين يرفضون الذهاب إلي الدروس الخصوصية.. وبالفعل استسلم الجميع أمام الرغبة الجامحة المرعبة لهذا الأستاذ ما عدا مسعود. ففي إحدي الحصص دخل المدرس الفصل وأمر مسعود بالوقوف وسأله سؤالاً أدهشنا جميعا حيث قال له.. مسعود تعرف تقولي كل اللي تعرفه في الإنجليزي.. تعرف تلخصلي المنهج كله في خمس دقائق؟! فبدأ مسعود يلملم شتات نفسه ليستعرض ما يعرفه من المنهج ولكن المدرس لم يعطه الفرصة وقال له بالتأكيد هتجاوب غلط.. افتح إيدك يا.. وعندما أحس المدرس أنه لا فائدة من هذا التلميذ العنيد سأله قائلاً.. ليه يا مسعود مبتخدش درس خصوصي زي زمايلك فقال مسعود يا بيه أنا فقير وباصرف علي نفسي.. وباشتغل كل يوم جمعة عشان المصاريف.. والنبي يا بيه كفاية ضرب وإهانة أنا مش هاقدر آخد دروس نهائية فبدت علي المدرس علامات التأثر مما قاله مسعود وقال له إنت يا مسعود حمار وغبي وما بتفهمش.. ليه مقلتليش من الأول إن أنت عندك ظروف صعبة قوي كدة؟ يا مسعود إنت لازم تيجي النهاردة مع زمايلك وما تدفعشي ولا مليم.. أنا لازم أساعدك وأقف جانبك إنت واللي زيك عشان ربنا يباركلي في الباقي. وتأثر مسعود أشد التأثر حتي أخذ يبكي من كرم الأستاذ غير المتوقع وشكره شكراً عظيماً ووعده بأن يحضر مع زملائه في نفس اليوم وذهب مسعود إلي الدرس الخصوصي وبعد مرور ثلاثة حصص كان الشهر قد انقضي وكان علي الطلاب أن يدفعوا الخمسة جنيهات للمدرس عن طريق زميل يقوم بجمع المبلغ من الطلاب أثناء الدرس الخصوصي وعندما طلب ذلك الزميل من مسعود أن يدفع فقال له مستنكرا أنا تبع البيه يا ابني وعندما حضر المدرس سأل الزميل المكلف بعملية جمع الفلوس لميت الفلوس من العيال فقال كله تمام ما عدا الواد مسعود وهنا نظر مسعود إلي الأستاذ غزالة وقال عرفه يا بيه إن أنا تبع حضرتك ففاجئه الأستاذ قائلاً تبعي فين.. يعني إيه تبعي؟! وتابع قائلاً.. أنا معرفش حد وماليش دعوة بظروف حد وكل واحد يعتمد علي نفسه وهو صغير عشان يبقي راجل لما يكبر فصعق مسعود ولم يجد كلمة ينطق بها فقد كانت كلمات المدرس كالطلقات التي لا تصد ولا ترد. فقال له مسعود متشكرين يا بيه علي ذوقك لكن أنا حضرت 3 حصص بس ممكن أدفع ثمنهم وخلاص.. فقاطعه المدرس.. هو أنا ببيع لب هاتدفع الخمسة جنيه وإلا فأنت ساقط ساقط. انصرف مسعود علي أمل أن يجد حلا مع هذه المصيبة الجديدة التي حلت علي رأسه وفي اليوم التالي في حصة المدرسة دخل المدرس الفصل ولم يلق علينا تحية الصباح كالمعتاد وتوجه إلي مسعود قائلاً جبت الفلوس فرد مسعود قائلاً اديني فرصة يا بيه.. بكره إن شاء الله أمي هاتبيع البطة اللي حيلتنا في السوق وهاجيبلك الفلوس وجاءت الحصة التالية وحدث من المدرس نفس ما حدث في المرة الأولي وسأل مسعود عن الفلوس فرد مسعود والله يا بيه أمي راحت تبيع البطة ما عجبهاش السعر اللي اتعرض عليها فرجعت بيها تاني للبيت وإن شاء الله السوق اللي جاي السعر يمكن يتحسن. وفي الحصة التالية تكرر نفس السيناريو ويسأل الأستاذ غزالة مسعود.. البطة اتباعت يا بني؟ فيقول له مسعود أقسم بالله يا بيه البطة باضت وأمي استخسرت تقومها من علي البيض وتبيعها وفي الحصة التالية يدخل الأستاذ ودون أن يلقي تحية الصباح يصيح في وجه مسعود.. البطة اتنيلت ولا لسه؟ يرد مسعود بص يا بيه جالنا ضيوف وأمي دبحت البطة!!