علي مدار سنوات الصراع العربي - الإسرائيلي بأنماطه المتنوعة، العسكرية والسياسية والثقافية، حدثت تطورات مهمة للغاية، أدت في نهاية الأمر ذ حتي الآن - إلي تقليص الحلم الصهيوني الخيالي بإقامة دولة عبرية تمتد من النيل إلي الفرات، إلي الاحتفاظ بدولة يهودية علي الأرض المحتلة منذ عام 1948. تركز إسرائيل الآن تحت حكم أقصي اليمين المتطرف علي محاولة اقتطاع أجزاء من الأرض المحتلة من الضفة الغربية في عام 1976 في إطار ما يسمي بحل الدولتين الذي ترعاه الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، أي الآباء الشرعيين لدولة إسرائيل في الشرق الأوسط. رعاية الدول الآباء لإسرائيل لحل الدولتين هو في الواقع تطور لا يستهان به، لأنه صادر عن الدول التي تشكل المظلة الاستراتيجية لحماية اسرائيل والحيلولة دون تفعيل الأفكار التي تدعو إلي التخلص من اسرائيل وإخراجها من المنطقة، وتحد من تأثير أعمال المقاومة بغير الوسائل السياسية، بل لعلي لا أذهب بعيدا حين أقول ان فكرة القومية العربية فشلت في مواجهة الحلم الصهيوني نظرا لعدم واقعية الهدف من ناحية، وعدم نضج الوسائل من ناحية أخري. لسنا بحاجة إلي القول مجددا إن اسرائيل قامت في منطقة الشرق الأوسط بإرادة دولية سواء شاركت تلك الإرادة في التخطيط والوعد أو في التنفيذ والدعم أو بالمباركة والاعتراف الفوري أو الصمت فيما بعد عن جرائمها ضد الشعب الفلسطيني. مسلسل المشكلة الفلسطينية بدأ بوعد بلفور للحركة الصهيونية العالمية بإقامة وطن قومي لليهود علي أرض فلسطين التاريخية، وحين تولت بريطانيا سلطة الانتداب أتاحت للحركة الصهيونية تنظيم هجرة اليهود إلي فلسطين وتمكينهم من إقامة تجمعات عسكرية تمهيدا لما يستجد من خطوات. بعد نشوب الثورة الفلسطينية الكبري التي دارت بين السنوات 1933 و1939 ضد سلطة الانتداب من ناحية وضد التواجد اليهودي المنظم ظهرت لأول مرة فكرة تقسيم فلسطين إلي دولتين عربية ويهودية مع تحديد منطقة دولية حول القدس في تقريرين صدرا عن لجنتين تم تعيينهما بمعرفة الحكومة البريطانية المنتدبة علي فلسطين. بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد مداولات مطولة أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 قرارا قضي بإنهاء الانتداب البريطاني علي فلسطين وتقسيم أراضيها إلي 3 كيانات جديدة، أي تأسيس دولة عربية وأخري يهودية علي تراب فلسطين، وأن تقع مدينتا القدس وبيت لحم في منطقة خاصة تحت الوصاية الدولية. كان هذا القرار المسمي رسميا بقرار الجمعية العامة رقم 181 أولي المحاولات لحل النزاع العربي الصهيوني علي أرض فلسطين، وهو في نفس الوقت كان صك الإرادة الدولية لقيام دولة إسرائيل علي الحدود التي حددها القرار وقتئذ، وكانت أقل بكثير من مساحة إسرائيل الحالية. علي أية حال رفض العرب وقامت الحرب وخسروا المزيد من الأراضي لصالح إسرائيل، هنا لا نتعرض لجملة أسباب فشل الحرب ضد قرار التقسيم ولكن ما نود التركيز عليه هو أن تلك الحرب كانت موجهة في الواقع ضد الإرادة الدولية التي أقرت واعترفت وساندت إسرائيل وأمدتها بالأسلحة لتنهي حرب 1948 لصالحها ، كان خطأ تاريخيا ألا يعرف العرب في تلك الحرب العدو الذي يواجهونه. استمر وضع الإنكار لتلك المتغيرات حتي عام 1976 لتؤكد نتائج حرب يونيو من ذلك العام وجهة نظر إسرائيل لدي حلفائها الدوليين وهي أن العرب ظاهرة صوتية لا يجب عمل حساب لهم وأن إسرائيل موجودة بالمنطقة لتؤدب من يتراءي له الخروج علي مصالح الدول الغربية واسرائيل بإتاحة الفرصة لتغلغل النفوذ السوفيتي في المنطقة في ذلك الوقت. خلال حرب الاستنزاف التي بدأت في أعقاب إعادة بناء القوات المسلحة المصرية وامتصاص الأثر النفسي للهزيمة التي وقعت في حرب الأيام الستة، أدركت السياسة المصرية أن استمرار نفس الخط الرافض للتفاهم مع الارادة الدولية الفاعلة بالنسبة لاسرائيل سيلحق أبلغ الضرر بالقضية، فكان قبول الرئيس عبد الناصر لمبادرة روجرز وهو في موسكو الحليف الأول له إيذان بتحول جذري في تعامل السياسة المصرية مع الأزمة نحو الاعتراف بحتمية التعامل مع الإرادة الدولية التي دبرت زرع إسرائيل في المنطقة ومكنت لها أسباب القوة لتواجه وتهزم مجموعا عربيا مفككا ومهلهلا في ظل المد الأقصي لفكرة القومية العربية. انطلاقا من النظرة الواقعية للخريطة الدولية اتجهت السياسة المصرية الي إجراء معاملات مع الولاياتالمتحدة، ولما قررت مصر شن الحرب ضد إسرائيل لتصحيح الموازين السياسية في المنطقة وضعت في الاعتبار عدم الاصطدام بالولاياتالمتحدة لتأتي نتائج الحرب في النهاية وفق المخطط المصري: كسر شوكة الجيش الاسرائيلي والوصول به الي درجة الاستنجاد المباشر بالولاياتالمتحدة، إقناع الولاياتالمتحدة بأن اسرائيل لا تستطيع الحياة بمفردها في المنطقة ولذلك يتعين التوصل إلي سلام شامل وعادل. علي أية حال، ليس مهما الآن ماذا حدث بقدر ما هو مهم أن ندرك الحقائق التي لا ينبغي تجاهلها في قضية الصراع العربي - الإسرائيلي وفي مقدمتها أهمية موقف الآباء الدوليين المؤسسين لإسرائيل الذين ضمنوا وجودها في حدود قرار التقسيم الذي صدر عام 1947، ثانية تلك الحقائق أن التعامل بواقعية مع القضية هو الذي أدي الي التحرك الحالي في المشكلة، ثالثة الحقائق أنه بقدر تفهم الجانب العربي والفلسطيني وتجاوبه مع الارادة الدولية تأتي المكاسب وإلا فلا مكاسب، وحقيقة بديهية أخري وليست أخيرة أن تشبث بعض الأطراف الفلسطينية بتحالفات تنطوي علي عداء للولايات المتحدة يقلل فرص التوصل الي تفاهمات قبل تصفية تلك المواقف العدائية. خلاصة القول من هذا العرض أن تبني الرئيس أوباما لحل الدولتين انما ينبع من إرادة دولية ويستند إلي قرار التقسيم، إن التحرك الأمريكي لحل المشكلة لم يأت من فراغ وإنما جاء وليد تحرك عربي ضاغط يتبني سياسة عملية، وموقف للسلطة الوطنية متفهم لطبيعة العلاقات الدولية الحالية، ودون استمرار الضغوط العملية لن تستمر رغبة الولاياتالمتحدة في إقناع اسرائيل بأن قيام دولة فلسطينية مستقرة يصب في مصلحة إسرائيل. أما التحرك في اتجاه مضاد للارادة الدولية في هذه القضية، فهو من قبيل الحرث في الماء يضيع الوقت والجهد ولا يترك أية علامة!!