الغلاسة منطقة غامضة في طبيعة البشر وسلوكهم لا تحظي بعناية الباحثين بالرغم من أهميتها القصوي وتأثيرها السلبي في حياة الأفراد والمجتمعات. وحتي الآن لم نتوصل لتعريف دقيق لها يمكن الاعتماد عليه في شرح هذه الظاهرة ومن ثم التعرف علي طرق تجنبها أو الوقاية منها. وإذا كانت للأنفلونزا أنواع فالغلاسة أيضا كذلك، وإذا كان فيروس الأنفلونزا قادرا علي تطوير وتحوير وتغيير نفسه ففيروس الغلاسة له أيضا نفس القدرة. والكلمة فصحي فنقول غلس الليل بمعني أنه جاء وهبط وأسدل أستاره، وهو بالضبط ما يفعله الشخص الغلس بأفراد دائرته الضيقة أو بمجتمعه. الشخص الغلس قادر علي إشاعة الظلمة فيمن حوله وإفساد لحظاتهم ودفعهم تدريجيا إلي الاختناق إلي الدرجة التي تجعلنا نصف شخصا غلسا بأنه استهلك كل الأكسجين الموجود في المكان وهو أيضا ما يفسر التعبير الشهير الذي يقول إننا تنفسنا الصعداء عندما غادر فلان الجلسة. هل الشخص الغلس علي وعي بأنه غلس؟.. نعم.. تماما كما يعرف المصاب بالأنفلونزا أنه مصاب بها. الشخص الغلس يعرف أنه غلس وأنه يغلّس عليك أي يحول لحظاتك إلي سواد تفقد فيها استمتاعك بالحياة. غير أنه عاجز عن مقاومة غلاسته لأنها بالتحديد مصدر شعوره باللذة، هو إذن بالغلاسة يعيش وبالغلاسة يتحقق. لقد خضت معارك كثيرة تبدو في الظاهر سياسية أو ثقافية غير أنني اكتشفت في النهاية أنه لا توجد في هذه المعارك سياسة أو ثقافة أو يحزنون.. إنها الغلاسة. هي إذن درجة من العدوان الجبان الذي يخشي صاحبه الإعلان عنه. ولا توجد مشكلة حقيقية في ذلك، لأنك تستطيع الابتعاد عن الغلساء أو تقصير زمن اللقاء معهم عندما يحدث بالصدفة، غير أن الأمر دائما ليس بهذه السهولة، فمنذ نصف قرن مثلا كان من السهل عليك أن تعرف بالتحديد الشخص الغلس في القرية أو المدينة أو الحي أو علي المقهي. كان عدد الغلساء في ذلك الوقت في حدود النسبة المسموح بها دوليا أما في عصر التلوث البيئي الذي نعنيه الآن فنسبتهم تزايدت إلي الدرجة التي تجعل منهم خطرا حقيقيا علي رصيد الظرف وخفة الدم المصرية المشفوعة بحب الحياة والرغبة في الاستمتاع بها. سأعطيك أمثلة، منذ يومين أفتي بعض العلماء في إندونيسيا بأنه ليس من حق المرأة المسلمة أن تفرد شعرها، غير أنهم استثنوا من هذا الحرام المرأة المتزوجة، وفي ثمانينيات القرن الماضي في مصر صدرت فتاوي في مصر عن شباب الجماعات المتطرفة تحرم بيع الباذنجان والكوسة، واستندوا في ذلك إلي أن عملية( التقوير) لهاتين الثمرتين تشبهان ما يحدث أثناء الجماع بين الرجل والمرأة، ولم يكتفوا بذلك، بل هاجموا أسواق الخضار واعتدوا بالضرب علي الخضاراتية الذين يبيعون الباذنجان والكوسة. بعد ذلك انتقلوا إلي هدف آخر هو برج القاهرة مطالبين بهدمه لأنه يشبه عضو الرجل بما يثير الفتنة.. هل تتصور فكرة دينية من أي مذهب ومن أي فرقة خارجة أو مارقة وراء هذا النوع من التفكير؟ مستحيل.. إنها درجة عليا من الغلاسة تتيح لهم العدوان علي البشر تحت غطاء ديني. أستطيع أن أصف لك مئات أفعال الغلاسة الحالية المتسترة بالدين والسياسة غير أني لست من هواة الدخول في معارك خاسرة مع أطراف استولت في الميدان علي كل التبّات والمواقع الحاكمة لتمارس منها مدافع الغلاسة علي البشر. بالتأكيد يسعي الإنسان بوجه عام للحصول علي الاعتراف بوجوده من الآخرين، إنها قضية الفرد والجماعة والعلاقة بينهما ، وعبر آلاف السنين اكتشف الإنسان أن الطريقة الوحيدة للحصول علي اعتراف الجماعة هو العمل والإنجاز الذي يمشي جنبا إلي جنب مع انجازات الآخرين، وحتي عندما يصطدم بالجماعة فعادة يكون ذلك لصالحها استنادا لقدرته علي رؤية ما لا تراه الجماعة. غير أنه في كل الأحوال لا يقوم بالتغليس عليها. لكن الشخص الغلس مع وعيه بغلاسته علي وعي أيضا بعجزه الشديد عن مجاراة بقية أفراد المجتمع في إنجازاتهم، تلك الانجازات التي أكسبتهم الاعتراف والمكانة. في هذه اللحظة تكون الغلاسة هي طريقه الوحيد للإحساس بالأهمية. كل المنجزين ظرفاء يتمتعون بروح المرح وإذا عثرت علي شخص غلس بينهم فاعلم علي الفور أنه حرامي يشعر بالذنب لأسباب لا تعرفها أنت ويعرفها ويعانيها هو. هكذا يمكن الاستنتاج بسهولة أن الغلاسة وثقل الظل قاصرتان علي هؤلاء الذين يعانون من الشعور القوي بالخطأ والخطيئة. المدهش في الشخص الغلس أنه ظريف للغاية مع أولياء نعمته، من المستحيل أن يغلّس علي رؤسائه، هو يمارس ذلك علي مرءوسيه فقط ولا يقرّب منه إلا أبناء قبيلته من الغلساء. عيّن شخصا غلسا مسئولا عن مؤسسة كبيرة، بعد شهور قليلة ستنتشر فيها الغلاسة وتكون طابعها الوحيد، كل من تقابله فيها سوف يغلس عليك ابتداء من أصغر ساع أو فراش.. والعلاج..؟ عندما تختبر شخصا تمهيدا لتعيينه في وظيفة مهمة، تأكد من أنه يتمتع بروح المرح، هذا هو الشخص الوحيد القادر علي محاصرة الغلاسة والغلساء والحد من تأثيرهم.