لا يمكن اعتبار يوم الميلاد الدامي في نجع حمادي، وليد احتقان حالي مزج بين الشرف والثأر والدين، وإنما هو حصاد أكثر من ثلاثين عاما، بدأت في سبعينات القرن الماضي عبر سياسة رسمية اعتمدها الرئيس الراحل أنور السادات لتشجيع التيارات الإسلامية للتصدي للشيوعيين والناصريين. كما لم تعد خافية علي أحد حين أشرف محافظ أسيوط في السبعينيات محمد عثمان إسماعيل وبأوامر مباشرة من الرئيس علي دعم الجماعة الإسلامية، التي لم ينكر أي من قادتها الدور الذي لعبه المحافظ في السماح للجماعة بالانتشار والتمدد وإن اختلفوا فيما بينهم حول ما إذا كانت تلقت دعما ماديا حكوميا أم لا. وإذا شئنا إجراء تحليل دقيق لحالة الاحتقان الطائفي التي تنتشر بشكل كبير في صعيد مصر، فإن علينا العودة للكثير من هذه الأحداث التاريخية، والتحولات السياسية والدينية التي شهدها الصعيد، وأدت بشكل مباشر أو غير مباشر إلي تغيير طبيعة الشخصية الصعيدية علي مدار أكثر من ثلاثين عاما. في صعيد مصر في بداية السبعينيات حيث كنا نعيش برفقة والدي الذي تنقل للعمل بين الأقصر وأسوان، لم تكن مفردات مثل مسيحي ومسلم مطروحة للتداول بين الناس، بل ونحن أسرة مسلمة كانت أسر مسيحية قبطية أقرب إلينا، تجمعنا بها علاقات صداقة مميزة ونادرة الحدوث هذه الأيام. مثل هذه الطبيعة المتسامحة غيبتها سنوات من التشدد والتطرف والتعصب، وهي كلها أمور تنمو بالتوازي مع مرادفات لا تزال تبدو طابعا للحياة في الصعيد منها الفقر والأمية، حيث لا يزال صعيد مصر يسجل أعلي نسبة في الفقر والأمية والتسرب من التعليم عن باقي أرجاء الوطن. وفي الوقت الذي كانت فيه عملية التنمية في ثلاثين عاما خلت تتجه بقوة نحو القاهرة والإسكندرية ومحافظات الدلتا والقناة ظل الصعيد غائبا أو مغيبا، لدرجة أنني جلست علي مقهي في مدخل طريق الصعيد الزراعي في المنيب قبل سنوات، ولاحظت أن كل سيارات النقل مختلفة الأحجام والأنواع، تمضي إلي الصعيد محملة بكافة أشكال البضائع، وتعود إما فارغة أو علي متنها القصب والرمان والبلح والطماطم، ولا شيء أكثر من هذه المنتجات الزراعية. وحينما تغيب التنمية، ويصبح الفقر حالة عامة، وتفرد الأمية جناحيها علي أي مكان تنتشر الأفكار الظلامية، وتتمدد التنظيمات الدينية المغلقة، حيث سيطرت أفكار الجماعة الإسلامية علي الشباب المسلم في صعيد مصر، وتنمو الشائعات، وأتذكر في سنوات التسعينيات حينما كانت تندلع مظاهرات غاضبة في المنيا تضم عشرات الآلاف احتجاجا علي شائعة تقول أن المسيحيين يرشون مادة علي حجاب المسلمات ترسم عليه الصليب وغيرها كثير. ولم يكن مقتل ستة أقباط آمنين يؤدون قداس الميلاد المجيد حادثا فرديا، فقد سبقته عبر سنوات حوادث مماثلة ويذكر تقرير صادر عن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عن جريمة مماثلة، في قرية المنشية التابعة لديروط في أبريل 1992 وراح ضحيتها 14 مواطنا بينهم 13 قبطيا وأن الجماعة الإسلامية في ديروط تمارس أعمال عنف طائفي منظم منذ عدة أعوام، لم يفلت منه حتي المسلمون من غير أنصار هذه الجماعة، وعدد التقرير بعض هذه المظاهر ومنها حظر إقامة الشعائر الدينية جهرا، ومنع إقامة احتفالات علنية بالمناسبات الاجتماعية أو الأسرية الخاصة. صحيح أن نفوذ الجماعة الإسلامية في الصعيد بدأ في الانحسار عقب العملية الإرهابية أمام معبد حتشبسوت بالأقصر عام 1997، ثم إطلاق الجماعة مبادرة وقف العنف عام 2002، لكن ميراث الأفكار المتطرفة، والعلاقات التي توترت عبر سنوات، والمناخ الطائفي الذي ظهر جراء ذلك لايزال موجودا ويحتاج إلي الاعتراف به أولا ثم البحث عن حلول عملية لمواجهته.