كشفت تركيا حقيقة ما تعاني منه إسرائيل من داخل. ليس ما يعبر عن عمق الأزمة التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي اكثر من المواجهة الأخيرة بين حكومة بنيامين نتانياهو من جهة وبين حكومة رجب طيب اردوغان من جهة أخري. اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلي الاعتذار في ضوء التصرف غير اللائق لداني ايالون نائب وزير الخارجية الإسرائيلي مع السفير التركي الذي استدعي الي مقر الخارجية ليستمع إلي احتجاج في شأن مسلسل تليفزيوني تركي تعتبره إسرائيل "معاديا للسامية". وجهت تركيا انذارا إلي إسرائيل بعدما جاءت الصيغة الأولي للاعتذار دون المستوي المقبول والمطلوب. استجابت إسرائيل سريعا للإنذار وللمهلة التي حددت لها. وكانت النتيجة امتناع أنقرة عن سحب سفيرها من تل أبيب. كان هناك انقسام داخلي في إسرائيل، علي مستويات مختلفة، حيال تصرف ايالون الذي حرص علي توجيه كلام قاس للسفير في حضور صحفيين التقطوا الحدث بالصوت والصورة. اكثر من ذلك، أجلس السفير علي مقعد منخفض ولم يظهر العلم التركي في الاجتماع في حين كانت نبرة ايالون عالية جدا، عن سابق تصور وتصميم. كان السؤال الذي طرح في الصحف الإسرائيلية ووسائل إعلامية متنوعة ما الذي يريده نائب وزير الخارجية؟ هل يريد افتعال أزمة مع تركيا؟ هل يريد كسب تأييد داخلي للحزب الذي ينتمي اليه وهو حزب "إسرائيل بيتنا"، وهو أيضا وزير الخارجية افيغدور ليبرمان المهاجر إلي إسرائيل من مالديفيا مع موجة المهاجرين الجدد من دول الاتحاد السوفييتي السابق في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. ظهرت إسرائيل في مظهر الدولة التي لا تحترم نفسها لاسباب عدة. أول الاسباب، عدم تقدير وزارة الخارجية لأهمية العلاقة مع تركيا ولأهمية تركيا نفسها. وهذا يعني في طبيعة الحال أن وزارة الخارجية لم تعد علي تماس مع الواقع، بما في ذلك الدور التركي الجديد في المنطقة من جهة والتحولات الداخلية التي تشهدها تركيا من جهة أخري. فما لابد من الاعتراف به أن تركيا تغيرت كثيرا في السنوات الأخيرة، خصوصا مع وصول رجب طيب اردوغان وحزبه الإسلامي (العدالة والتنمية) إلي السلطة. أكدت تركيا بما لا يقبل الشك أنها لم تعد تحت سيطرة المؤسسة العسكرية التي كانت تربطها علاقات في العمق مع إسرائيل. استطاع اردوغان الذي يمكن اعتبار حزبه جزءا لا يتجزأ من حركة الإخوان المسلمين الحد من نفوذ المؤسسة العسكرية المرتبطة تاريخيا بتعاون وثيق مع إسرائيل. يمثل ذلك تحولا أساسيا علي صعيد المنطقة ككل يبدل التوازانات الاقليمية. لا يصب هذا التحول في أي شكل في مصلحة إسرائيل. وقد جاء نائب وزير الخارجية ليدفع في اتجاه مزيد من النفور التركي من إسرائيل. يكاد المرء يتساءل هل بقي شيء من الدهاء السياسي في إسرائيل... أم أن الجيل الجديد من السياسيين من طينة بنيامين نتانياهو لا يعرف شيئا عن المنطقة ولا عن كيفية التعاطي مع شئونها وشجونها. لم يعد هذا الجيل يري سوي مصلحة إسرائيلية في تكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربية، بما في ذلك القدسالشرقية. كل ما تبقي تفاصيل. ومن التفاصيل أيضا العلاقة مع تركيا التي باتت ترفض السكوت عن الاحتلال الإسرائيلي للضفة والجولان وعن إرهاب الدولة الذي مارسته إسرائيل في غزة في أثناء الحرب الأخيرة. ولكن ما العمل مع مجتمع مريض يقبل ببيبي نتانياهو رئيسا للوزراء وافيجدور ليبرمان، الحارس السابق عند باب ملهي ليلي، وزيرا للخارجية؟ ما العمل عندما لا يعود في إسرائيل من يريد السعي إلي فهم التحولات التي تشهدها تركيا وأهمية هذه الدولة في الشرق الأوسط، خصوصا في ظل الفراغ العربي من جهة والاحداث الداخلية التي تشهدها إيران من جهة أخري؟ ما العمل أيضا عندما تكون هناك في إسرائيل حكومة ترفض التفاوض مع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عباس وتتمسك بدلا من ذلك بالمستوطنات، في حين يبدو واضحا أن هناك صيغة معقولة ومقبولة لتسوية مع الجانب الفلسطيني؟ أو ليس الموقف من تركيا ومن المفاوضات مع الجانب الفلسطيني أفضل تعبير عن الأزمة العميقة التي يعاني منها مجتمع لم يعد يعرف ماذا يريد؟ ايا يكن الموقف من تركيا ومن توجهات الحكومة التي يرأسها رجب طيب اردوغان التي حققت نجاحا اقتصاديا جعل الأتراك يتمسكون بها، لا بد من الاعتراف بأن الشرق الأوسط دخل مرحلة جديدة. صارت تركيا لاعبا اقليميا اساسيا. استفادت من الانهيار العراقي وهي تستفيد حاليا من حال الضياع في إسرائيل. أن اضطرار نائب وزير الخارجية الإسرائيلي إلي الاعتذار باسم حكومته بسبب المعاملة غير اللائقة للسفير التركي يشكل أفضل خدمة لأردوغان ولوزير خارجيته أحمد داود أوغلو مهندس السياسة التركية الجديدة التي تدعو إلي عدم الاكتفاء بردود الفعل بل إلي لعب دور اقليمي فعَال. كلما زاد الانفعال الإسرائيلي، زادت شعبية اردوغان علي الصعيد الداخلي. في النهاية لا يستطيع بلد عنصري مثل إسرائيل التعاطي مع السفير التركي بطريقة تنطوي علي مقدار كبير من الاحتقار... من دون رد فعل في مستوي الحدث! هل كل ما في الأمر أن إسرائيل لم تعد قادرة علي تحمل ابتعاد تركيا عنها ولم تعد تعرف انها ليست دولة عظمي وأن ليس ما يحميها سوي السلام القائم علي حل الدولتين؟ كلما مرّ يوم يزداد الغرور الإسرائيلي ولكن، كلما مر يوم يزداد أيضا الغياب العربي وتزداد الحاجة إلي الاعتراف بأن تركيا موجودة في الشرق الأوسط أكثر من أي وقت وذلك منذ انهيار الدولة العثمانية قبل سبعة عقود.