كتبت - محمود الزلاقي تأثير رفاعة رافع الطهطاوي في مشروع التحديث المصري كبير للغاية، وهو يستحق أن ينال هذا الاهتمام لدي المؤرخين لأنه بدأ مشروعه مبكرًا وحارب في سبيله وكان مؤمنا بأن هذا ما يجب أن يكون في مصر ومستقبلها. وسريعا نقول أنه التحق في السادسة عشرة من عمره بالأزهر ثم عين واعظا في جيش محمد علي، ولما فتح باب البعثات سافر إلي فرنسا 1826 لمرافقة أعضاء البعثة كواعظ لهم، ولكنه خرج عن الخط المرسوم ودرس الفرنسية واستقدم مدرسا فرنسيا ليستزيد من اللغة الفرنسية التي من الواضح أنه أعجب بها إعجابًا شديدًا وأصبح مترجمًا فذًا، وأورد تجربته هذه في كتابه تخليص الابريز في تلخيص باريز وعاد إلي مصر 1831 فكان نجم مشروع النهضة. بعد وفاة محمد علي آلت الأمور إلي حفيده عباس الذي كان حاكما منغلقا رافضا لأي تغيير في المجتمع فأغلق المدارس وهدم كل شيء شهدته الساحة المصرية من تطور. وبالطبع فإنه إذا كان منغلقا ويريدها انغلاقًا في انغلاق فكان عليه أن يتخلص من دعاة التغيير والتحديث، ولذا قام بنفي رفاعة إلي الخرطوم بدعوي افتتاح مدرسة ابتدائية في الخرطوم 1850، كان هدفه أن يمنع انطلاقته وأن يتخلص من أحاديثه ومناقشاته وكتاباته التي كان لها مفعول السحر في المجتمع الذي يتطلع إلي حياة جديدة متقدمة. صدر الأمر من ولي الأمر وخرج رفاعة مشحونا بالغضب قاصدا الخرطوم ويمكن أن نتصور حالته النفسية التعسة وهو يترك مشروعه في مصر ويذهب إلي بلد هو غير راغب في الذهاب إليه. ولذلك عندما استقر في الخرطوم في بداياته.. هجا كل شيء في وجوده مع أحد عشر مدرسا وطبيبا (للعلم عاد منهم خمسة فقط!) كانوا تعساء لهذا النفي القسري، هاجم الحياة والطبيعة القاسية من ريح السموم حتي فتيات الخرطوم الرائعات الشقيات (ليس فيها بنت تملأ عينيه) وعواصف الجو صباحا ومساءً حتي ناسها الطيبون كانوا في نظره وحوشا، ولكنه بعد ذلك تقبل الوضع والخرطوم لها سحر خاص يهدئ المشاعر ويفتح القلوب - اسألوني عنها 14 سنة مستمتعا بها - تغير كل ذلك في النهاية، وكان يشكو همه لزملائه وبدأت عيناه وأحاسيسه تجاه الخرطوم تتغير، ومما كان ينغص عليه أن الحاكم التركي كان متشككا في مشروع المدرسة المصرية وكان يضع العراقيل في طريقه.. حتي جاء الفرج بمقتل عباس! لم يكن عباس مخربا لمشروع النهضة فقط ولكنه لم يسكن القاهرة وعاش في قصره بعيدًا في بنها، وكان له حاشية خاصة لخدمته يرأسهم أحد غلمانه الأخصاء عرف بحسن بك الصغير، الذي أساء معاملة الحرس الكبار وتعالي عليهم فكانوا يرمونه بأقوال قبيحة وألفاظ شائنة (مفهوم قالوا إيه.. ما هو مخص) فشكاهم للوالي الحاج عباس باشا فجمعهم داخل السراي وأمر حسن بك بجلدهم وجردهم من نياشينهم الرسمية وألبسهم لبدا وزعابيط وأرسلهم لخدمة الخيول في الاصطبلات، توسط لهم الوسطاء حتي عفي عنهم وردهم إلي مناصبهم ولكنهم كانوا ممرورين فتآمروا عليه مع غلام آخر وفي ليلة 19 الحاج عباس الذي هدم كل ما بناه حبره.. نعود إلي الخرطوم فمن المصادفات أن جزايرلي باشا حكمدار السودان كان قد أعد وليمة في سفينة من سفن الحكمدارية الراسية في مياه الخرطوم دعا إليها قناصل الدول ورفاعة بك ناظر مدرسة الخرطوم، وعندما حان وقت إقلاع السفينة قال رفاعة للمعزومين إن الوالي عباس باشا قد قتل، فارتعد الحكمدار للخبر وخشي عاقبة الرحلة في هذا اليوم فأبطل العزومة فورًا وعاد الجميع إلي الشاطئ وتفرق الجميع. لما عاد رفاعة إلي المدرسة سأله المدرسون عن سبب عودته سريعًا.. فأخبرهم بما قال.. فسألوه ومن أين علمت أنت بقتل عباس باشا.. فقال لهم: كنت قد انتهيت لتوي من ترجمة تلماك وفيها انضمام تلماك للمعارضين لمحاربة الملك أدرسته لارتكابه كل الأمور التي فعل مثلها عباس بالضبط.. ولما كانت عاقبة أدرسته القتل فقياسا علي هذا لابد أن يكون عباس قد قتل، فهاجوا عليه منددين بأنه لم يكفه غربتهم في الخرطوم ليقوم بهذا القياس الخرافي.. فانظر يا رفاعة ماذا سيحيق بنا.. وسوف ينفوننا إلي أبعد من الخرطوم.. اشرب يا مولانا؟ المفاجأة في اليوم التالي جاءه اثنان من العسكر الأشداء يدعوانه لمقابلة الحكمدار فازداد خوف المدرسين من العقوبة ولما هم رفاعة بالمسير معهما ذهب بفردة حذاء واحدة.. وأحضر له العسكر الفردة الثانية (من لبختة!).. ووقف أمام الحكمدار الذي حياه تحية عظيمة، وأجلسه وأن له البشري.. ولزملائه حيث صدر أمر الوالي محمد سعيد باشا بإعادتهم جميعًا إلي القاهرة، وأعطاه هدية فخمة للوالي الجديد.. وطلب منه تجهيز متعلقاتهم للسفر في الحال.. كان المعلمون يجهزون لنفي جديد.. فإذا به يخبرهم بأن قياسه كان صحيحًا وكان في محله وأنهم عائدون جميعًا إلي القاهرة.. لأن عباسا قد قتل فعلا. عاد رفاعة رافع الطهطاوي مع الباقين من زملائه إلي القاهرة ليستكمل مشروعه وحتي وفاته 1920.. وحكايات الخرطوم سواء عن رفاعة.. أو حتي عن عباس محمود العقاد. أو حتي عن شعر علي الجارم من الذين زاروا الخرطوم وأشادوا.. لاتزال تتردد في لياليها الساحرة.. وحتي الساعة.