النهار للعمل والليل للراحة والسمر. هكذا درجت البشرية وتعود الناس. لم يعلمهم أحد ذلك ولم يطلبه منهم ولكن فقط لأن الدنيا مضيئة بالنهار ومظلمة بالليل، ففي الضوء يسعي الإنسان إلي رزقه ويعود مع المساء متعبا لينام أو يسهر مع غيره من الأهل أو الجيران لينسي مشقات النهار. لم يخرج أحد علي هذه القاعدة الاضطرارية إلا الحاكم بأمر الله الذي في إحدي نوباته العقلية قرر أن يكون العمل بالليل والنوم بالنهار وبينما هو يمر علي الرعية النائمة بالنهار وجد نجارا - فيما أذكر إن لم تكن مهنة أخري - يعمل في دكانه فأمر بقتله لكن المصري الأريب قال له ياسيدي أنا سهران من ليل امس فضحك الحاكم بأمر الله وعفا عنه. لم يشذ عن هذه العادة المكتسبة أحد في الأزمان الغابرة إلا القتلة واللصوص من قطاع الطرق والمحبين والكتاب والمبدعين. كل منهم رأي الليل له لأسباب تخصه فالمجرمون يريدون النفاذ بجرائمهم والمحبون لا يريدون انكشاف أسرارهم أو يبكون سعداء أو مقهورين والكتاب والمبدعون يريدون الكون خاليا إلا منهم والله مصدر إلهامهم. كانت الحروب أيضا لا تتم بالليل إلا فيما ندر وكانت بعض الأعمال البسيطة تتم علي ضوء القمر ولكن مع تقدم الزمان واكتشاف الإنسان للإنارة بشكل أكبر ثم بشكل عظيم مع اكتشاف الكهرباء صار الليل نهارا فازداد السمر وانتقلت أعمال نهارية مثل السفر إلي الليل وازداد النشاط في الليل فصارت لدينا شركات ومصانع تعمل فيه ولم يعد اليوم الذي هو أربع وعشرون ساعة كافيا لطموحات الإنسان والدول. وصارت أيضا الحروب بالليل والنهار مع المدفع والطائرة والصاروخ وفيما شهده العالم من حروب عصرية كانت غارات الطائرات الليلة هي أكثر وأشق الغارات. ومن الوقائع المدهشة أن الفيلد مارشال مونتوجمري قائد الجيش الثامن البريطاني في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية كان ينام دائما في العاشرة مساء. وليلة معركة العلمين الشهيرة التي بدأها الجيش الثامن علي قوات المحور في الصحراء الغربية ليلا، ما أن بدأت المعركة في العاشرة مساء إلا ودخل القائد العظيم مونتوجمري إلي مخدعه في مقر القيادة بمنطقة برج العرب لينام. ونام بالفعل ولم يوقظه أحد إلا في موعده الصباحي، رغم أهمية المعركة التي كان ينتظرها العالم، وهكذا فعل مونتوجمري كل يوم حتي خرجت قوات المحور من أفريقيا كلها. الكتاب والمبدعون هم الذين في أغلبهم يرون الليل نهارهم الحقيقي حين تصمت الدنيا وتتسع وتنزل اليهم ربات الإلهام. وأنا منذ عرفت الكتابة لم أكتب بالنهار إلا مرات قليلة استثنائية وكانت في الأغلب مقالات وليست قصصا أو روايات ولحسن حظي لم أكن ملتزما بمواعيد نهارية للعمل منذ وفدت القاهرة فكان الليل ولا يزال هو حياتي الحقيقية أنفقت أكثر من نصفه في الخروج ونصفه الثاني في الكتابة التي تبدأ عادة بعد منتصف الليل بالنسبة لي ولا يكون معي غير الموسيقي. أذكر أنني في الأحداث الكبري للوطن صحوت بعد أن بدأت مثل مظاهرات يناير عام 1977 . ومثل أحداث سبتمبر التي قبض فيها الرئيس السادات علي كل معارضيه وأذكر ذلك اليوم أنني تركت البيت بعد الظهر ولم أعرف شيئا والتقيت مع الصديق الكاتب محمود الورداني صدفة في الاوتوبيس فأخبرني واندهش من كوني لا أعرف قلت له كنت سهران واستيقظت متأخرا فقال طيب ما تعملش كده تاني لحسن تقوم ثورة وأنت مش داري. وضحكنا. حرب أكتوبر حدثت وسط النهار وكنت في زيارة من الإسكندرية للقاهرة لبعض الأعمال لذلك عرفت بها في موعدها والحمد لله. أشياء كثيرة جرت في الوطن لم أعرفها في موعدها لأنها جرت في النهار او في الصباح الباكر. الآن والحمد لله هناك برامج فضائية اخبارية بالهبل تعيد علينا ما جري بالنهار وسعادتي الشخصية بها كبيرة لأنها اغنتني تقريبا عن النهار خاصة وانا غير مرتبط الآن بأي عمل. لم يصاحبني في الليل في البيت الا البرنامج الموسيقي بعد الثانية عشرة مساء هذا البرنامج الذي يريدون في الاذاعة القضاء عليه ويحولونه إلي برنامج تجاري مليء بالاعلانات القبيحة رغم أن من أهم ميزاته أن الموسيقي تنطلق منه بالليل دون مذيعين يتحدثون حتي الصباح إلا فيما ندر. تخيل أنت نفسك تستمع إلي موسيقي لموتسارت أو باخ أو تشايكوفسكي ثم تجد فجأة إعلانا عن السيراميك والحمام. تخيل نفسك تستمع إلي موسيقي تصويرية لأفلام عالمية عظيمة مثل الدون الهادئ أو قصة حب أو دكتور زيفاجو أو الأب الروحي ثم يقطعها عليك إعلان عن الهامبورجر والسوسيس وغير ذلك من الأكلات المسمومة التي انتشرت في البلاد. لا يتمتع من يريدون ذلك بأي ذوق للأسف وهذا آخر معقل للفن الجميل يريدون الاعتداء عليه لأنهم تجار لم يستمتعوا يوما بكتاب بديع ولا مقطوعة موسيقية. لا يرون الجمال إلا في المال ويصرون علي تشويه روح الإنسان المصري في أقل ما بقي له بعد ان شوهوها في كل شيء. علي أن هذا ليس الموضوع، فقط تذكرت هؤلاء معدومي الاحساس بالجمال وأعتذر لنفسي وللقارئ انني شوهت احساسه بالليل الذي أيضا تنطلق فيه دعوات المحرومين وتنزل دموع ذوي الكبرياء بعيدا عن من سبب لهم الألم وتنتعش فيه الذكريات ويتمدد الزمن فيصبح أكبر من حقيقته ويبدع فيه المبدعون فيضيفون الي العالم القبيح من حولهم عالما من الجمال ما يلبث أن يصل إلي الآخرين كتب أو موسيقي أو افلام أو ما تشاء من ابداع فيتسع العالم حول الناس ويصبح أجمل. والليل ليلان يا صديقي، ليل شتوي هو في الغالب الذي يحدث فيه هذا كله وليل صيفي قصير، ولليل الشتاء حصته الأكبر من الجمال. والآن نحن في ليل الشتاء فتعالوا لا نحرم انفسنا من ذكريات جميلة أو ابداع أو قراءة وتعالوا ندعو معا ان يخلصنا الله من كل من يريد شرا بالبلاد.