إذا تتبعنا تطور الاقتصاد العالمي في العشرين سنة الأخيرة، أي بعد تفكك المعسكر الاشتراكي، نجد أنه كان هناك مصدران أساسيان لهذا التطور في العالم، المصدر الأول تمثل في ادخال موارد جديدة في الاقتصاد العالمي مثل أراض وامكانيات وشعوب دول المعسكر الاشتراكي المنهار، والمصدر الثاني، وهو يرتبط بالمصدر الأول، هو أن الولاياتالمتحدة ودول أوروبا قامت بتقديم قروض هائلة ساعدتها علي النمو السريع، كما ساعدت الصين وروسيا في تحقيق نمو اقتصادي كبير في هذا المجال واستخدمت آليات كثيرة ومختلفة، منها ثنائية السوق الاستهلاكية الأمريكية والصناعات التصديرية الصينية، وهذه كانت إحدي الآليات المهمة للاقتصاد العالمي اجمالا، حيث جلعت القروض سهلة المنال ومنخفضة النسب وشروط الحصول عليها أسهل بدرجة كبيرة، وبفضل هذه القروض السهلة ارتفع الطلب الاستهلاكي، إلا أن مسئولية تسديد هذه القروض كان يجب أن يتحملها أحد ما، وهذا الأحد كان الصين التي أخذت تشتري الديون الأمريكية وتدخر احتياطيات كبيرة، كما شاركتها في ذلك دول أخري، في نفس الوقت سمحت هذه الآليات للصين بخلق سوق استهلاكية تصدر لها بكميات هائلة ما تنتجه، وهذه المنظومة ظلت فعالة لفترة طويلة إلا أن مواردها قد انتهت حاليا لأسباب عدة. الأزمة المالية الراهنة ليست واحدا من هذه الأسباب، وإنما هي نتيجة لها، ويبدو أن حجم الديون الأمريكية التي اشترتها الصين قد أخذ شيئا فشيئا يقلقها، فالصينيون لا يعرفون كيف يتصرفون فيها الآن، والجانبان باتا مرتبطين ببعضهما البعض الصين بأمريكا وأمريكا بالصين ولم يجد أي منهما مخرجا من هذا الوضع بعد. يقول باري آيتشنجرين أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي: أن منع أزمات مشابهة من الحدوث في المستقبل يتطلب حل مشكلة اختلال التوازن العالمي.. وهذا سوف يعتمد أساسًا علي قرارات تتخذ خارج الولاياتالمتحدة، وتحديدًا في الصين.. ولكن تظل الآمال قائمة في تجنب تكرار ذلك، ويعتمد أحد هذه الآمال علي حسن نوايا الصين في دعم استقرار اقتصاد الولاياتالمتحدة والعالم. وإذا كانت المنافسة بين الدولة الأولي والثانية في العالم، أمريكا والصين، أمرًا قائمًا وموجودًا منذ قرون طويلة، فإنه لم يحدث قط في التاريخ أن وجد هذا الترابط الكامل بين الدولتين المتنافستين، فكل من الصين وأمريكا تستطيعان أن تلحقا الضرر ببعضهما البعض، وبنفس القدر، وهو أمر جديد كل الجدة ولكنه في نفس الوقت مطمئن بالنسبة لمستقبل السلام العالمي. والشركات العابرة للقوميات هي أفضل تعبير عن العولمة الاقتصادية، إذ أنها لا ترتبط بالبلد الأم أو المنشأ، بل نراها تنقل مقرها الأساسي ببساطة للخارج، حيث الضرائب أقل والخدمات أفضل، ومن ثم فهي شركات ذات طبيعة طفيلية بالنسبة للدولة القومية، ولا تنتمي الواحدة منهما إلي الأخري أيديولوجيا. إن العولمة تتطلب من المشروعات أن تتلون كالحرباء - حسب تعبير فيليب مورو ديفارج في كتابه العولمة - أن تكون أمريكية في الولاياتالمتحدة ويابانية في اليابان وفرنسية في فرنسا. فشركة ماكدونالد، وهي شركة مطاعم أنشئت في الولاياتالمتحدة في أبريل 1955، واحدة من المشروعات العالمية النادرة التي تقدم في كل مطاعمها نفس الأطعمة الخاصة بها مع عمليات تكييف تناسب الأذواق المحلية. ويمكن تقديم ماكدونالد باعتبارها اتحادًا فيدراليا كل مؤسسة فيه مستقلة ولكنها تبرم مع الشركة الأم عقدًا يتضمن التزامات اجبارية للغاية. من هنا صكت بعض الكلمات الجديدة ذات الدلالة في قاموس اللغة الإنجليزية المتداولة اليوم، منها كلمة - Outsourcing وتعني أن: شركة ما تتعاقد مع شركة أخري في بلدها أو خارجه علي القيام بجزء معين من عملها، وكلمة - lnsourcing وتعني أن: شركة ما تقوم بعمل محدد في عدد من الشركات الأخري. وكلمة - Offshoring وتعني أن: شركة ما تنقل عملها كليا أو جزئيا من بلدها إلي بلد آخر، أو تقوم شركة ما من بلد ما بعملها في بلد آخر. هذه الكلمات مفتاحية لفهم العملية الاقتصادية اليوم، وتشير إلي تغير عضوي في بنية رأس المال العالمي، إلي درجة أنها تخلخل الكثير من المسلمات في الفكر الاقتصادي الاشتراكي علي الأقل وهي أن رأس المال يولد الحروب. العكس هو الصحيح، كما يؤكد الصحفي المخضرم توماس فريدمان في كتابه المهم العالم مستو.. موجز تاريخ القرن الحادي والعشرين، ربما كانت بنية رأس المال العضوية الراهنة، أو بالأحري عملية الانتاج العالمية، ورأس المال أحد مكوناتها، من التداخل والتشابك والتعقيد إلي درجة قد تمنع قيام الحروب، التي عرفناها، مستقبلا.