تحتفظ الذاكرة بمشاهد أبهرتني في الصغر، تجسد بطولة خارقة للممثل الأمريكي كيرك دوجلاس بذقنه المميز، وهو يقاتل بكل العنف ويفتح مناطق بعيدة عن وطنه ضمن آلاف المحاربين الأشداء، وسمعنا عن الاسم عبر أفلام هوليوود، أيام السينما العمالقة: غزاة الشمال، حيث الغزاة الفايكنح Viking يمثلون البربرية التي لا تقاوم عبر هجماتهم الشرسة علي الجزر البريطانية، وزيهم الحربي الذي تعلوه خوذة حديدية ذات قرنين نموذجا لرعب فاعل، ظلت الصورة محفورة في الخيال حتي مع عرض أفلام السويدية: أنيتا اكبرج بكل ما كانت تمثله من رقة لا تقاوم أيضا. كانت السينما الأمريكية تجذب المشاهد نحو التعاطف غير المنطقي مع الغزاة متناسية أن التاريخ قد سطر هجوما: لهم علي كنيسة في إنجلترا عام 793م راح ضحيته عشرات الرهبان الذين كانوا يرددون في صلواتهم »يارب خلصنا من غضب رجال الشمال. كما كانت هوليوود تظهر البرابرة »الفايكنج في مراكبهم الحربية البدائية، وهم يعبرون المحيط الأطلسي عبر أنواء وعواصف بحرية رهيبة، وصولا إلي بلاد قاموا باحتلالها قهرا وبكل قسوة، لكن في صورة بطولة وإنجاز تاريخي!! ويذكر التاريخ أن الفايكنج وصلوا كذلك إلي تركيا وإيرانوروسيا بل إلي الجزيرة العربية ذاتها مع التحول إلي نشاط وتبادل تجاري بل علمي ثقافي أيضا، حسبما يؤكد المستشرق السويدي د. بنجت كنوتسون Bengt Knutson والأستاذ بجامعة لوند السويدية، ضمن محاضرة وندوة دعيت إليها في المعهد السويدي بالإسكندرية، كما يذكر أنه تحقق مزيج من علاقات بين الفايكنج والعرب قام فيها أبناء الشمال »السويد، والدنمارك، والنرويج باستيراد: الحرير والبهارات والكريستال والخرز و»السبح من العرب، مع تصدير الغراء والسيوف إليهم. هذا وقد تأثر الشماليون بالشعر العربي لدرجة التقليد، نقلوا عن العرب كرم الضيافة المعروف، كما نقلوا عنهم الكثير من مبادئ العلوم والفلك إبان فترة كان العرب فيها ينعمون بازدهار تاريخي، لم يدم طويلا بكل الأسف، لكن أبناء الفايكنج استثمروا ما نقلوه ثم قاموا بتطويره إلي ما نراه الآن في السويد أو الدنمارك أو النرويج، أو حتي أيسلندا!! ويدلل كنوتسون علي التأثير المتبادل بين أبناء الشمال والعرب إبان الخلافة العباسية عبر قرنين ونصف من الزمان، أنه قد اكتشف في السويد 80 »ثمانين ألف قطعة عملة فضية من دراهم عربية ومحفورة بخط كوفي علي وجه منها »لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعلي الوجه الآخر. محمد رسول الله جاء بالحق، كما وجدت آلاف القطع الذهبية: حلقان وعقود وسلاسل وأساور لزينة النساء. وضمن حوار اشترك فيه القنصل السويدي أمب أرفتيز Amb Arwitz يذكر د. كنوتسون أن الفايكنج قد اكتشفوا أمريكا قبل كريستوفر كولمبس بخمسمائة سنة. كما يؤكد ما هو أكثر مدعاة للدهشة: أن اسم روسيا هو ما أطلقه العرب علي الفايكنج، وحيث تحدث المؤرخ نستور Nastor ذاكرا وجود منطقة في السواحل الشرقية في السويد اسمها: روس، ومن ثم فان الفايكنج هم من أسسوا روسيا ذاتها عام 862م وأعطوها اسمها الحالي، وحيث وصل نفوذهم إلي كييف في الجنوب الروسي، وهناك مقبرة كبيرة تحمل علامات عديدة تدل علي طول وجودهم هناك، هذا وقد تحول نفوذهم بعد مرور الوقت إلي صلح مع القيصر تضمن اتفاقا تجاريا بين الطرفين، وبالعربية الفصحي التي يجيدها يذكر كنوتسون أن الفايكنج قد خدموا في حراسة القيصر اليوناني قسطنطين الثاني وذلك لكونهم محاربين أشداء، كما ينوه عن وصولهم إلي مشهد في إيران وإلي تركيا أيضا ضمن نشاط تجاري وتبادل ثقافي أيضا. وبعد عشاء أمام الميناء الشرقي وبلهجة مصرية يتقنها استأنف المستشرق السويدي الحوار حول تحول الفايكنج من برابرة يدمنون إرهاب الدول الخاضعة ويسلبون ثرواتها عبر مسلسل من هلع قاتل، إلي رجال يحركهم السلوك الإنساني السوي بل الراقي وتحكمهم الرغبة نحو التطور والثراء الآدمي، عبر قرون قليلة. ويذكر أنه كانت هناك في ذروة قسوتهم لمحات تدعو للتفكير: منها أنهم كانوا ينقشون علي شواهد القبر الحجري: اسم المتوفي وبطولاته الغازية وتاريخ الوفاة احتراما للمتوفي.. وتوقيرا لجلال الموت، وحيث الموت يحرر الفرد منهم من مشاكله الدنيوية باعتبار الموت راحة من كل شر كما نكرر في الدعاء الإسلامي، كما كانوا يقدمون الذبائح لإرضاء الآلهة، مع عقيدة توفر لهم مواصلة الاستمتاع بملذاتهم من قتال وشرب خمر والتهام لحم خنزير في الحياة الأخري. كانت أمسية أشرفت عليه مسز مارجاريتا هوزين Margareta Husen المدير التنفيذي للمعهد، وقامت بدور المضيف المحب لمصر والمصريين، وكان الجميع يبحثون بإخلاص عن وسائل تنشيط العلاقات بين السويد والعرب، وتقويتها مع المحروسة بوجه خاص، ضمن مجموعة من باحثين وخبراء من هنا وهناك في مجالات التاريخ والآثار والاجتماع والتعليم والعلاقات العامة. لكن تساؤلا ظل يطاردني: كيف نقل غزاة الشمال عن العرب ثم تطوروا حتي وصلوا إلي ما هم عليه الآن من تقدم وازدهار بينما تراجع العرب منشغلين بما لا يفيد، حتي ازدادت الفجوة عمقا بين الطرفين بين القاهرة واستوكهولم مثلا؟ كيف تقدموا وتراجعنا؟ بكل الأسف مرة أخري!! لماذا لا ننهض كي نلحق بمن أخذوا عنا الكثير؟ لماذا حقا؟