تعرضنا في حلقات بالسرد والتعليق علي ما قاله والوورث باربور سفير الولاياتالمتحدة في تل أبيب الذي عينه الرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي عام 1961 وظل في منصبه حتي عام 1973، أشار باربور إلي البرنامج النووي الإسرائيلي ونظرة إسرائيل إلي مصر والرئيس عبدالناصر وإلي طلبات الأسلحة التي لا تنتهي من جانب إسرائيل للولايات المتحدة، وكل ذلك من منظور إسرائيلي في الغالب فقد كان هذا السفير علي عكس الكثير من زملائه يغلب وجهات النظر الإسرائيلية علي مصالح بلاده وأمنها القومي. الآن نتعرض إلي جانب طريف من العلاقات الإسرائيلية الأمريكية. من المعروف أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تشهد في دورتها العادية في سبتمبر كل عام نشاطا كبيرا فيما يخص قضية الصراع العربي الإسرائيلي وخاصة قضية اللاجئين الفلسطينيين. كانت المجموعة العربية مدعمة بدول العالم النامي والاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية تستخدم الدورة لإصدار قرارات تدين الممارسات الإسرائيلية والمطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلي ديارهم. لم تكن حرب عام 1967 قد نشبت بعد وما أدت به من نتائج لا نزال نعيش آثارها حتي اليوم من احتلال أراض إلي طرد سكان إلي تدمير منازل إلي إقامة مستعمرات.. إلخ. في كل مرة كانت إسرائيل تحاول أن ترد علي المحاولات العربية بالمطالبة بعقد مفاوضات مباشرة بينها والدول العربية. وهي بذلك تحاول أن تظهر أن العرب معادون للسلام ويريدون تدمير إسرائيل، وأنهم لو قبلوا المفاوضات المباشرة لانفرجت الأمور كلها وبسرعة، كل ذلك من أجل محاولة وضع الدول العربية في موقف الدفاع لأن العالم كله ينشد السلام وقد لا يتفهم لماذا يرفض العرب الجلوس علي مائدة المفاوضات، شهدت جانبا من محاولات ممثلي إسرائيل هذه في الأممالمتحدة حيث كانوا يقفون فوق منصة الجمعية العامة والدموع تكاد تتدحرج من أعينهم اظهارا للإخلاص في مواجهة هؤلاء العرب قساة القلوب المتوحشين. كان هناك أيضا في تلك الفترة ما سمي باسم مشروع قرار برازافيل الذي ينسب إلي دولة الكونغو التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي وهي ليست الكونغو التي كانت تحت الاستعمار البلجيكي وعاصمتها كينشاسا، الكونغو برازافيل كان يرأسها قس غريب الأطور يعتقد في نفسه أنه يمثل المسيح في الأرض وكانت له مبادرات سياسية غريبة منها حول الشرق الأوسط إذ لم تكن منظمة الوحدة الأفريقية قد ظهرت بعد إلي الوجود مايو 1963 وبدأت في تناول القضية الفلسطينية بالجدية اللازمة. وصف باربور مشروع قرار برازافيل بأنه شيء تافه غريب حتي أن الخارجية الأمريكية لم تكن سعيدة به، والإسرائيليون أيضا لم يكونوا يرحبون به. يقول باربور إن رئيس الكونغو كان صهيونيا أكثر من تيودور هرتزل نفسه أي كان يغالي في مولاته لإسرائيل لأسباب غير معروفة. قدم رئيس الكونغو برازافيل مشروع قرار في رأيه غير واقعي ولكن في نفس الوقت أيقن الإسرائيليون والأمريكيون أنه ليس في استطاعتهم معارضته علنا لأنه مؤيد لإسرائيل لذلك تجاوبتا معه ظاهريا في الأممالمتحدة. يعلق باربور أيضا علي ما حدث في نوفمبر 1962 قبل شهر من مقابلة وزيرة خارجية إسرائيل جولدا مائير مع الرئيس كيندي في ولاية فلوريدا الأمريكية، في هذه الفترة أصدرت الخارجية الأمريكية التي يصفها باربور بأنها كانت تنتقد إسرائيل كثيرا مذكرة تحت اسم سكوب Scope عن موقف الولاياتالمتحدة من النزاع العربي الإسرائيلي. وتقول المذكرة إن واشنطون قد تجاوبت أساسا مع المطالب الإسرائيلية بتزويدها بصواريخ هوك والتعاون معهما في تحويل مياه نهر الأردن وكذلك بأمن إسرائيل. في الجانب الآخر فإن إسرائيل لم تتجاوب ولذلك فإن الخارجية الأمريكية كانت تشعر بغضب شديد تجاه إسرائيل بسبب ذلك وخاصة سعيها للاضرار بجهود الأممالمتحدة في عمليات حفظ السلام وتصلبها بالنسبة لمسألة اللاجئين واستخدامها المستمر لما يسمي مشروع قرار برازافيل في الأممالمتحدة الذي تعتقد واشنطون أنه غير واقعي بالاضافة إلي قيامها بغارات انتقامية عبر الحدود العربية. يقول السفير باربور مبررا السياسة الإسرائيلية ضد سياسة وزارة خارجيته إنه للأسف فإن وزارته وللتاريخ كانت غير راضية عن مسلك إسرائيل، فهذه المذكرة أعدها في رأيه من يعرفون باسم المستعربين في الخارجية، بعضهم تم التغرير به وبعضهم غرر بهم بعلمهم ولذلك أعدوا ما أسماه بهذه المذكرة الفظيعة الهراء التي تعيد إلي الوراء ما أسماه بعهد الوزير جون فوستر دالاس في الخارجية الأمريكية، وغالبا هو يقصد كل من لا يؤيد إسرائيل علي طول الخط ويضيف أنهم - لا نعرف بما يقصد بأنه هل هو اللوبي الإسرائيلي أم إسرائيل نفسها - لم يتخلصوا منهم إلا مؤخرا وبفضل جهود روجر ديفيز الذي كان نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية، وكان من سياسته عند تعيين أي دبلوماسي أمريكي في إدارة الشرق الأوسط أن يضمن ألا يكون معاديا لإسرائيل وبذلك يمكن أن يكون منصفا في رأيه فيما يتعلق بالنزاع العربي الإسرائيلي!! ولكن باربور وصف هؤلاء المستعربين الذين أعدوا هذه المذكرة بالمخالفة في رأيه للأمور والمنطق، فصواريخ هوك التي زودت واشنطون إسرائيل بها كانت دفاعية وليست هجومية وما قدمته واشنطون لإسرائيل هو لتمكينها من الدفاع عن نفسها، كما قدمت لها مساعدات اقتصادية أكثر ولكن ليست ضخمة، ونفي باربور أن يكون وراء المذكرة فليبس تالبوت مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأدني الذي عينه كيندي فور توليه السلطة أو وليام كراوفورد مدير قسم الشرق الأدني، مضيفا أن السبب ليس في الأفراد داخل الخارجية وإنما في الجو العام السائد الذي كان يسمح لهم باتخاذ مواقف مؤيدة للعرب. في ديسمبر عام 1982 قابلت جولدا مائير الرئيس كيندي في منزل الحاكم أفريل هاريمان وهو من كبار الدبلوماسيين الأمريكيين الذي كانت له شهرة كبيرة ويثق فيه كيندي، وخرجت مائير من الاجتماع معتقدة أنها حصلت من كيندي علي وعد الدفاع عن إسرائيل في حالة تعرضها لهجوم من العرب، يقول باربور إنها ذهبت إلي الاجتماع وهي محبطة من الموقف الأمريكي ولكنها خرجت منه سعيدة جدا من موقف كينيدي، وفي الحقيقة فإن الولاياتالمتحدة لم تقدم أبدا إلي إسرائيل ضمانا مكتوبا حول الدفاع عن أمنها، ولكن تم تبادل خطابات فيما بعد بين الدولتين حول هذا المعني من جانب الرئيس جونسون الموالي لإسرائيل علي طول الخط ورئيس الوزراء الإسرائيلي أشكول، وكذلك المراسلات بين جولدا مائير وعدد من المسئولين الأمريكيين، ويقر باربور بأنه علي ضوء النفوذ اليهودي في الولاياتالمتحدة فلا يمكن تصور موقف لا تهب فيه الولاياتالمتحدة لنجدة إسرائيل في حالة تعرضها لعدوان وهو من جانبه لا يري أي عيب في وجود نفوذ يهودي في الولاياتالمتحدة. في الحلقة القادمة يتحدث باربور عن تعاملاته مع المسئولين الإسرائيليين وتحليله لشخصياتهم.