في توقيت واحد تقريبا عام 1961 قام الرئيس الأمريكي جون كينيدي بتعيين سفيرين جديدين في كل من القاهرة وتل أبيب.. الأول عين في القاهرة ثلاث سنوات في فترة سادت خلالها علاقات لا بأس بها بين واشنطنوالقاهرة، والثاني عين حتي عام 1973 أي أنه عاصر ثلاثة رؤساء أمريكيين وكان معروفا بعلاقاته الوثيقة مع المسئولين الإسرائيليين وكان يدافع دائمًا عن مواقف إسرائيل حتي لو تعارضت مع السياسة الخارجية لبلاده. هذا السفير والوورث باربور تحدث في الحلقات الماضية عن موضوع سعي إسرائيل لإنتاج أسلحة نووية وكان دائمًا يؤكد أن إسرائيل كانت تسعي فقط للأغراض السلمية للطاقة الذرية في الوقت الذي كانت تقوم بلاده بالتحري عن مصادر الوقود المخصب الذي تحصل عليه إسرائيل من أجل البرنامج النووي الإسرائيلي، كما أعاقت إسرائيل عمليات التفتيش الأمريكية علي مفاعلها. تحدث باربور عن مشروع جوزيف جونسون الذي كان يعمل في مؤسسة كارنيجي الدولية، لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وهو المشروع الذي اهتمت به الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت عام «1961» من أجل إقناع إسرائيل بأن تفعل شيئًا بالنسبة لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين واستخدمت في ذلك خبير الشئون اليهودية والإسرائيلية في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض ماير فيلدمان الذي لعب دورا مهما أيضا في إدارة الرئيس جونسون بعد اغتيال الرئيس كينيدي.. أوفدته واشنطن في مهمة إلي إسرائيل لهذا الغرض في صيف عام 1962 . قال باربور إن مشروع جونسون كان معقدا جدا بالنسبة لاختيار اللاجئين الفلسطينيين بين حق العودة إلي ديارهم -في فلسطين- أو التعويض، ولذلك فإن ترك الخيار لهم يستوجب الحصول بالطبع علي موافقة إسرائيل والجزء المهم الثاني هو ما العدد الذي تقبل به إسرائيل من اللاجئين الذين سيعودون؟.. قام جونسون بعدة زيارات لإسرائيل وبعض الدول العربية لشرح المشروع ولم يكن -كما يدعي باربور- هناك أي شيء مكتوب من جانب واشنطن لتقديمه لكي يكون أساسا للمناقشات.. المرة الوحيدة التي يقول إن الإسرائيليين اقتربوا من ناحية مناقشة العدد المسموح بعودته كان عندما التقي برئيس الوزراء بن جوريون في مكتبة بالقدس وكانت جولدا مائير وزيرة الخارجية تجلس علي أريكة علي يسار بن جوريون والسفير باربور علي يمينه في وجود عدد كبير من المعاونين.. في هذه اللحظة ألمح بن جوريون إلي استعداد إسرائيل في هذا الشأن، ولكن باربور لم يقل ما الذي ذكره بن جوريون بالضبط وأن نسب إليه أن إسرائيل في ظل توافر ظروف معينة علي استعداد لقبول 150 ألف لاجئ فلسطيني.. وهنا تصلبت جولدا مائير عندما سمعت هذا الرقم الذي تفوه به بن جوريون إذ إنها كانت ضد عودة أي لاجئ ولكنها كوزيرة خارجية لم تنبس بشيء في حضور رئيس الوزراء بن جوريون. نفي باربور أن تكون مهمة ماير فيلدمان في إسرائيل مهمة دبلوماسية كما ذكر عدد من السفراء الأمريكيين في الدول العربية، وانتهي كل المشروع الذي أعده جونسون لأنه كان في رأي باربور غير قابل للتنفيذ، ولكن لا شك أن إدارة كينيدي تخلت عن المشروع بسبب معارضة إسرائيل واللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة. ويقول باربور إن هذا المشروع تم «قتله» أي إنهاؤه في اجتماع الحكومة الأمريكية في البيت الأبيض بمشاركة الرئيس كينيدي ودين راسك وزير الخارجية وفيليب تالبوت مساعد وزير الخارجية.. جونسون كان يجلس علي الطاولة وعرض تفاصيل مشروعه.. ويتذكر باربور الذي كان موجودا في الاجتماع أن جونسون ذكر أنه سيوزع علي اللاجئين ورقة تتضمن أسئلة مثل: «هل تريد البقاء هنا؟» (أي في الدول العربية التي تستضيفهم) أو هل تريد أن يتم توطينك في مكان آخر؟» ويقول: إن هذا المكان الآخر المتوافر في ذلك الوقت كان البرازيل وكان جونسون يحاول العثور علي دول أخري علي استعداد لقبولهم. يدعي باربور أن اللاجئين إذا ما قبلوا الذهاب إلي بلدان أخري بالرغم من ضغوط الدول العربية التي تريد الإبقاء عليهم كلاجئين، فإنه كان يتوجب «حمايتهم» في الحال و«شحنهم»، -هذه هي الكلمة التي استخدمها باربور بطريقة عنصرية كما لو كان الأمر يتعلق بشحنة حيوانات- إلي مكان آمن والحيلولة دون دفع عائلاتهم إلي الفرار أو قتلهم في مخيمات اللاجئين.. أجابه جونسون بأنها ستتكلف بليون ونصف البليون دولار.. وهنا يقول باربور إن هذا المبلغ عام 1962 كان مبلغا ضخما.. وفي النهاية يدعي باربور أن كينيدي قال: «أيها السادة هذا مبلغ ضخم، وأنا لا أخاف أن أحارب من أجله في الكونجرس، وهي معركة أنا علي استعداد للقيام بها، ولكنني أطلب منكم كل الجالسين حول هذه المائدة أن تخبروني عما إذا كانت لدي أي فرصة للنجاح في هذا الشأن.. وإذا نجحنا في ذلك فهل ستنجح الخطة نفسها؟» لم يرد أي شخص كما يقول باربور وهنا وقف كينيدي قائلاً: «أخشي أيها السادة أن هذا هو رأيكم».. وهنا يقول باربور إن هذه كانت نهاية مشروع جونسون إلي الأبد. يسأل محاور باربور عما إذا كان صحيحا ما ذكره ماير فيلدمان في شهادته فيما بعد أنه عندما زار إسرائيل في صيف 1962، إنه حصل من بن جوريون وجولدا مائير علي موافقة بقبول 10% من أعداد اللاجئين للعودة إلي ديارهم، أجاب باربور أنه لم يوجد شخص في تلك الفترة كان يعرف بالضبط العدد الإجمالي للاجئين.. وهنا نجد باربور يبرر الموقف الإسرائيلي إذ كان عدد اللاجئين معروفا بدقة من قبل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التي كانت تشرف علي إيوائهم في مخيمات اللاجئين في عدد من الدول العربية وكان لكل لاجئ بطاقة تموينية يحصل بموجبها كل شهر علي حصص غذائية محددة. قال فيلدمان مستشار الشئون اليهودية لكينيدي إن جولدا مائير عندما ذهبت إلي نيويورك في سبتمبر من عام 1962 للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أبلغته أن كل «الاتفاقات» السابقة معه تعتبر ملغية لأنها شعرت أن الخارجية الأمريكية قامت بتغيير مقومات مشروع جونسون لجعله أكثر قبولا للعرب ولذلك شعر الإسرائيليون أنه تم خداعهم.. يعلق باربور علي ذلك أن فيلدمان يبالغ في القول إنه كان هناك اتفاق مع إسرائيل فالموقف كان يتغير باستمرار.. وهناك نقطة أخري تتعلق بقرار في الأممالمتحدة لم تحتفظ الولاياتالمتحدة بوعدها لإسرائيل فيما يتعلق بفقراته، حيث كانت جولدا مائير تريد حذف إحدي هذه الفقرات، وعلي ما يتذكر هي الفقرة الحادية عشرة وهو ما وافقت عليه واشنطن ولكن الأخيرة لم تستطع إقناع الوفود العربية، ولذلك فوجئت إسرائيل أن هذه الفقرة قد انتقلت إلي ديباجة مشروع القرار وهو أمر رفضته بالكامل. في الحلقة المقبلة نستعرض مذكرة مطولة أرسلها باربور إلي وزير الخارجية الأمريكي دين راسك حول صفقة صواريخ هوك الأمريكية لإسرائيل وكيف فشل أول صاروخ منها عند إطلاقه في إسرائيل.