هل يمكن أن ننهي آلامنا بأيدينا؟ هناك عدد من قادة الرأي العام أو صنّاعه يبدون للوهلة الأولي موالين ملتزمين بمساعدة المصريين الفقراء، وهؤلاء ليسوا أكثر من الصورة الأخري لأسطورة ممجوجة تسمّي رغيف العيش المدعوم الذي يجب أن نفرّخ حول أحواله أفكارا جديدة! من أيام عبد الناصر والمشكلة قائمة، أعطي الدكتور كمال رمزي استينو وزير التموين آنذاك 48ساعة لإصلاح حال رغيف الخبز بعد أن عرض عليه في اجتماع لمجلس الوزراء بضعة أرغفة جمعها سامي شرف من أحياء مختلفة لمدينة القاهرة وسأله إن كان يمكنه أن يتناول مثل هذا العيش؟ برر السادات مشاكل الرغيف، ووقف في البرلمان يدافع عن حالة الرغيف، فيتصدّي الشيخ عاشور مخرجا أحد الأرغفة مواجها الرئيس قائلا: هذا هو خبز الإنسان المصري! لم يمض وقت طويل حتّي واجه السادات انتفاضة 18و19 يناير 1977، ولم تكن مصادفة ان يوجز مؤرخون وصحفيون و دارسون أجانب بتسميتها "انتفاضة الخبز". فقد تقدم "رغيف العيش" قائمة السلع الاساسية التي قررت الحكومة المصرية آنذاك رفع سعرها ليصبح ثمن"الرغيف الأبيض" قرش صاغ (10 مليمات)! قبل أن نكمل الحكاية ولم يعد لا "المليم" أو "القرش" وحتي العشرة قروش عملات متداولة في مصر الآن، يجدر التنويه بأنّ المصريين زاملوا بين علاقتهم بالخبز وعلاقتهم بالحياة وظهر ذلك في تعبيرات يومية متداولة - أكسب عيشي - تقطع عيشي.. الخ وأصبح للكلمة مدلول الاحتياج الشديد، واستعار السياسيون والإعلاميوّن سحرها وصارت ورقة لاستثارة أو إرضاء الرأي العام أو مداهنته واللعب علي غرائزه.وتتحوّل أغلب المشاكل اليومية التي تواجه المصريين لتتجسّد في رغيف العيش المدعوم. و الحكاية تتحدث عن دولة ومجتمع التصق بهما الماضي، والحلّ هو الحلّ، الحكومات المتعاقبة تدعّم الخبز بشكل أساسي من أعقاب الحرب العالمية الأولي وحتّي يومنا هذا! تدفع الحكومات المصرية الملايين لدعم رغيف الخبز من أجل الفقراء، وحكومة أحمد نظيف تدفع اليوم 10.5 مليار جنيه سنوياً، من المؤسف أننا لسنا أقرب لا إلي كرامة الإنسان ولا إلي سدّ جوع الجائعين مع هذا الانفاق الباهظ لدعم رغيف العيش أبو خمسة قروش! ومنذ شهور فقط والأحوال لاتزال مستمرّة،واشتعلت قنواتنا وصحفنا بأزمة طوابير العيش المهينة والمؤلمة، وبلغت من الحدّة أن اضطّرت الدولة إلي حلول شبه عسكرية وأحوال طواريء لمواجهتها. لقد مررنا بالعديد من التجارب وجرّبنا كلّ الحلول تقريبا لتحسين لون الرغيف ووزنه ومحاربة الفساد في صناعته وبيعه وتوزيعه، لنصل في النهاية إلي أنّ محاولة شراء الخبز المدعم في مصر استمرّت تجربة شرسة! كثير من الذين يحتلّون أماكنهم في طوابير الخبز يلجأون للشراسة في شراء الرغيف الحكومي المدعم لأنه يمكنهم بيعه مرة ثانية بضعف الثمن! وهناك أصحاب مخابز بلا ضمير يتاجرون في الطحين، ومفتّشون مرتشون يحتجّون بضعف رواتبهم، ولم ينس الوزير المختصّ أن يطلق مفتشيه علي المخابز ويقوم بنفسه بجولات مفاجئة يرافقه فيها محررو الصحف وكاميرات التليفزيون لطمأنة المدعوم "ء" ين، والتأكيد لهم "انه مش نايم".. ولا مانع من إصدار عدة قرارات بإغلاق مخابز بدعوي اكتشافه رغيفا في بعضها وزنه اقل من 130 جراما أو عدم مطابقة إنتاج البعض الآخر للمواصفات. يعني طالع من الفرن نص سوا أو ملخبط. مع انه لو كلف خاطره وزار أي مواطن محظوظ فاز ببعض الأرغفة المدعمة لاكتشف أن مارآه في المخابز عيش مخصوص لتفتيش الوزير. أما ما يحصل عليه المواطن بعد طول انتظار في الطابور الطويل ومعاناة وشتائم وجرائم وصلت أحيانا إلي أن يقتل الناس بعضهم، فليس سوي كتلة عجين ملخبطة تغري بشراء الرغيف المدعوء لتقديمه علفا للماشية!! كيف يمكن إصلاح الحال دون التسبب في اضطراب اجتماعي؟؟ هناك بالتأكيد إهانات وعذابات للمضطّرين الحقيقيين للوقوف في طوابير العيش يقابلها بالتاكيد أيضا فقدان العدالة. حيث يمكن للجميع الحصول علي الرغيف المدعّم، الفقير والأشدّ فقرا والغني وميسور الحال وكلّ المنحرفين المنخرطين في تجارة سوداء حول العشرة مليارات المخصّصة لدعم رغيف الخبز. يضيع دون أدني شكّ الهدف النبيل لدعم الرغيف.. ليصل إلي المصري الغلبان بسعر معقول يناسب محدود الدخل وفي حالة وظروف آدمية. وربّما يكون فشلنا لأكثر من نصف قرن في تحسين الأحوال، وراء ما طرحه وزير التضامن الاجتماعي حول استبدال دعم رغيف العيش من عيني إلي نقدي خلال العام المقبل. سيحتجّ صنّاع الرأي العام الذين ذكرتهم في مقدّمة مقالي وسيعلون الصياح، هي خطوة خطرة فعلا وبيننا دهماء الثوريين !!لكنّها ليست إلاّ أمرا صعبا، سيتمّ تصنيفها في نهاية المطاف بين الخطوات المعدودة الضرورية للحفاظ علي كرامة الإنسان المصري وحماية سمعة مصر.