قبل أن أتلقي خبر وفاة الشاعر الكبير محمد صالح كنت في حالة من الارتباك الروحي لبعض الأخبار والأحداث التي لم أتوقعها من حولي تخص عدداً من أصدقائي، فجأة انطلقت وتجسدت كلها أمامي وحولي، فيوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي تلقيت خبر دخول صديقي السكندري علي عبدالستار إلي المستشفي لإجراء عملية صغيرة في الشريان التاجي، وصديقي هذا الفنان يعرفه الكتاب والفنانون السكندريون كواحد من خريجي الفنون الجميلة وراعي النشاط الثقافي في مقهي خفاجي الشهير بالورديان وهو المقهي الذي ظهر في الستينيات وكان والده رحمه الله قد جعله مكانا للأنشطة الثقافية واستمر كذلك حتي رحيله وأضاف إليه علي المعارض الفنية أيضا وكنت أحد ضيوف هذه المعارض التي عرضت للكثيرين جداً من فناني الإسكندرية وكان دائما الفنان الكبير عصمت داوستاشي أكبر النشطاء في هذا كله الذي يحدث دون دعم من أي جهة لانشاط المتحمسين، هذا فضلاً عن أن علي نفسه كان زميلي في مدرسة طاهر بك الإعدادية في الستينيات التقينا بعد سنين طويلة أخذتني فيها القاهرة ونسيت الكثيرين لكنه لم ينساني وهو يراني أطل أحيانا من التليفزيون أو الصحف، وفي السنوات الأخيرة أصبحت زيارتي للإسكندرية لا تتم إلا بلقاء معه وأسرته. ذهبت أزور صديقي علي وعدت في نفس اليوم مطمئنا عليه وفي الصباح تلقيت ثلاثة أخبار محزنة، الأول هو وفاة صديق آخر من عائلة كلها أصدقائي لسنوات تزيد علي الثلاثين بالإسكندرية أيضا وهو أخ للدكتور مجدي شحاتة الصيدلي الكبير في الإسكندرية الذي كانت سهراتي أيام الشباب وحتي الآن معه وإخوته وأصدقائنا زاداً لكثير من أعمالي وليس سراً أن أبطال روايتي بيت الياسمين هم هؤلاء الأصدقاء الذين طالما ضحكنا ولهونا معا في السبعينيات من القرن الماضي وكان ألمي الشديد علي الفقيد سامي لأنه صغير من ناحية ولأنه الثالث من الأسرة الذي يلقي ربه هذا العام بعد وفاة أصغر الإخوة بالمرض اللعين والأخت الجميلة في حادث لا معني له، ثم تلقيت خبراً آخر بدخول صديق ثالث من الإسكندرية إلي المستشفي وهو الأصل في أحداث روايتي بيت الياسمين كلها، لم يكن ممكنا العودة إلي الإسكندرية مرة أخري، لقد زاد الارتباك إلي نهايته وأعطتني قوة الجميع بالرضا بقضاء الله قوة علي الصبر فإذا بي أتلقي خبر وفاة الشاعر الجميل محمد صالح الذي كان يعالج منذ شهور من السرطان اللعين الذي صار في مصر الآن مثل الأنفلونزا. محمد صالح أحد أدباء المحلة الكبار الذين تتالوا علي القاهرة منذ الستينيات وعرفنا منهم بعده بقليل سعيد الكفراوي ومحمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو والدكتور جابر عصفور، ورغم أنني كنت أعرف بالحالة الصحية المتدهورة لمحمد صالح إلا أن شيئا في روحي كان يقول لي إنني سأراه طيبا ولم أفكر أبداً في هذا اليوم ذلك أن محمد صالح بالنسبة لي كان هكذا إذا غاب لا أفقد الأمل في رؤيته وأراه رغم ما في حياتنا جميعا من انشغالات، إنتاج محمد صالح من الشعر ليس كثيراً ولكنه كبير، خط الزوال وصيد الفراشات وحياة عادية هي أشهر أعماله لكنه كان في الشعر علي غير كل أو أكثر شعراء الستينيات فهو لم يكن يجري وراء القضايا السياسية التي تضمن للشاعر جمهوراً أكبر، كانت قصيدته النثرية احتفالا مبكراً بالمشاعر البسيطة للإنسان، ومثل كثير من أبناء الريف البسطاء كانت مطالب الحياة التي لاتنتهي تأخذ كثيراً من وقته وجهده ورغم ذلك لم يحدث مرة أن جلس يشكو فكما كان شعره بسيطا عميقا كانت هذه الحياة التي لاتعطيه فرصة الانقطاع للكتابة حياة عادية لايجب أن يشكو منها لذلك كان بيننا الغائب الحاضر الذي يمر عليه غضب الأدباء وعصبيتهم ومعاركهم مع ما حولهم ولا يتوقف عندها إلا باسماً ويختفي ليعود راضيا، ترك لنا محمد صالح الجميل ابنيه حكيم الفنان وأحمد الصحفي اللذين كانا يشكلان له الحياة الحقيقية وما أجمل ما ترك، تلقيت خبر وفاته صباح اليوم الأول من العيد ومعه تلقيت خبر مرض الناقد الكبير فاروق عبدالقادر وسعي الكتاب والأدباء لإنقاذ وردة الادباء محمد ناجي الروائي الكبير الجميل الطبع والسلوك والكتابة. احتجت قوة جبارة لا تحمل ذلك كله وعرفت معني الإيمان وتذكرت سيد حجاب وهو يقول في مقدمة المسلسل العظيم ليالي الحلمية منين بييجي الرضا؟ من الإيمان بالقضا هذا المعني البسيط الذي نعرفه جميعا لكننا ننساه تحت وطأة الآلام في عزاء محمد صالح كان الحضور من الأدباء وبعض الفنانين ودارت عيناي بينهم الكثيرون لايختلفون عن محمد صالح، لم يروا الحياة مباراة للمكسب أو التكسب وشغلهم الرضا بما يكتبون وأوقات السمر، بعضهم من جيلي تغيرت عليه الأوطان بما لايتوقع ولا يشتهي وبعضهم من جيل لاحق يرون أن الحياة ستمضي كما هي لكن بالنسبة إليهم فالمهم هو الامساك بجذوة الابداع مهما كانت الحياة من حولهم، كان هناك صمت يليق بالقرآن الكريم وصمت يشمل الدنيا أضافه العيد الذي جعل الشوارع حول دار مناسبات الحامدية الشاذلية خالية، بالضبط كما كان يحدث حين نخرج من سهرة طويلة ومعنا محمد صالح بالليل في نصف البلد، لم أغادر البيت حتي نهاية العيد ولم أستطع القراءة ودخلت علي الفيس بوك وكتبت جملة قد أستطيع النوم بعدها عن محمد صالح وجاءتني كثير من التعازي من بينها مقطع شعري أضافته الشاعرة الشابة سارة عابدين من أشعار محمد صالح وجدته من أليق ما يمكن أن أنهي به مقالي. تركت أمي تسعة قراريط وخلخالين من فضة وضفائر مستعارة صنعت من حرير وتركت هذا الصندوق افتحه فأجد اشياء أمي أجدها ولا أجد أمي هكذا كانت المعاني الكبيرة تأتيه من اقصر الطرق. من البديهيات التي تمر علينا كل يوم ولا ننتبه لها.