لم يكن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، عبقري مدرسة التلاوة القرآنية المصرية، الذي غيبه الموت في الثلاثين من نوفمبر سنة 1988، إلا حنجرة ذهبية تمثل عنصراً جميلاً خلاباً في منظومة المواهب التي لا تنضب، وتبرهن علي حقيقة أن الريادة المصرية، في جميع المجالات، معطي راسخ لا جدال فيه ولا مناقشة حوله. ينتمي الشيخ الجليل إلي بيئة قرآنية خالصة، ومن قريته الصغيرة في مركز أرمنت بمحافظة قنا، جاء عبد الباسط إلي القاهرة لتعتمده الإذاعة المصرية قارئاً للقرآن الكريم، بعد أن تجاوز العشرين بقليل، وإذا به يأسر القلوب بعذوبة لا شبيه لها، وبصوت فريد منعش يفجر الروحانية والشوق إلي السماء. كان القارئ الفذ محط اهتمام المسلمين في جميع الأنحاء، وقدر له أن يقرأ في الأغلب الأعم من دول العالم الإسلامي، فلا يملك المسلمون وغير المسلمين إلا أن ينصتوا في خشوع لتلك الموهبة الخارقة التي أنجبتها مصر العملاقة، لينتشر عطاؤها عابراً للحدود، وهل تنجب مصر إلا من يحملون مشاعل الإبداع والهداية والتنوير؟! كان الشيخ في حياته الشخصية انموذجاً للبساطة والتواضع، أما عن مرحه العفوي فكان دليلاً عملياً علي التسامح الذي يبشر به الإسلام، وهو التسامح الذي يصل إلي ذروته في السلوك المصري المتحضر، حيث مخاصمة التعصب والتزمت والتجهم، وحيث الإقبال علي الحياة وطيباتها وعطاياها. يحتاج الأمر إلي مساحة هائلة لسرد أسماء الأفذاذ الأعلام في المدرسة المصرية للتلاوة القرآنية، فكيف لشعب يملك مثل هذا التراث الرائد الرائع أن يتهم من السفلة والأوغاد بأنه وثني، ويشبه أبناءه باليهود والصهاينة؟! بئس هؤلاء المرضي الذين يتهمون ويتطاولون، ولن يغفر لهم أنهم أجلاف بلا حضارة، ثراؤهم هش بلا جذور، والكراهية التي يكنونها لمصر والمصريين تبدو مبررة بالنظر إلي أن الحماقة داء لا دواء له، ويا صاحب الحنجرة الذهبية في عليائك، لا تغضب فإنهم موتي زائلون، وأنت الحي بعطائك العظيم.