فيلم عصافير النيل الذي شاهدناه في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الثالثة والثلاثين هو بالتأكيد أحد أهم وأفضل الأفلام المصرية في السنوات الأخيرة، الفيلم الذي كتب له السيناريو والحوار وأخرجه مجدي أحمد علي حلقة ذهبية جديدة في سلسلة الأعمال التي تتناول بدرجة كبيرة من الحب والتعاطف حياة البسطاء والمهمشين، يمكن أن تسمي هذا التيار الواقعية الجديدة أو أي تسمية أخري، ولكن الأهم في رأيي هذا الشعور الذي تخرج به من المشاهدة، حالة عجيبة من الشجن والتعاطف والمشاركة وتشاطر لحظات الحياة مع شخصيات لا تشك في أنك التقيتها أو سمعت عنها، مخرجو هذا التيار يختلفون في عوالمهم وفي أساليب التعبير ولكن أفلامهم تشترك في خلق هذه الحالة الصادقة والصادمة. عصافير النيل هو ببساطة لوحة هائلة للبسطاء رسمت أشكالها وحددت معالمها بالأسود والأزرق، بعض الابتسامات والأضواء الخافتة من لمبة جاز حال انقطاع النور المستمر لا تكفي أبدًا لكي تفتح نوافذ التفاؤل، هذه قصيدة رثاء مليئة بالشجن والأسي رغم التعلق المستمر بالحياة، علي مستوي الشكل تبدو التيمة متكررة: ذلك الشاب الريفي الذي يصل إلي العاصمة فلا يحقق شيئًا، بل ويبدو كما لو أنه يدور في دائرة بلا نهاية، ولكن المستوي الأعمق في الفيلم المأخوذ عن رواية للأديب الكبير إبراهيم أصلان يوسع الدائرة قليلاً لتدخل فيها أسرة أخري تسكن شارع فضل الله عثمان في إمبابة، بسطاء القرية والمدينة يلتقون معًا في رحلة لا تنتهي إلي أي شيء، أحلامهم وطموحاتهم متواضعة أقرب ما تكون إلي الجلوس علي شاطئ النيل لاصطياد سمكة صغيرة أو الإمساك بعصفور هزيل، ولكن حتي هذه الأشياء الصغيرة لا ينجحون في الوصول إليها. يلجأ مجدي أحمد علي إلي صوت الراوي الذي يعرف كل شيء، والذي يتأمل الصورة من بعيد، ولكنه يحتفظ أيضًا برواية بطله الأساسي عبدالرحيم (فتحي عبدالوهاب) الذي يسرد في فلاش باك طويل محطات في حياته، وفي حياة أسرة أخته التي أقام عندها واسمها نرجس (دلال عبدالعزيز) وزوجها موظف البريد البهي عثمان (محمود الجندي)، ولكن عبدالرحيم لا يتذكر حياته الفارغة في برنامج تليفزيوني مثلاً، وإنما في لقاء بالصدفة في مستشفي يعالج فيه مع حبيبته القديمة بسيمة (عبير صبري)، تخترق الكاميرا المستشفي حتي تتوقف أمام سرير عبدالرحيم ثم تتابعه إلي الردهة الطويلة لتظهر له بسيمة من قلب النور يتبين فيها بصعوبة ملامح امرأة جميلة فاتنة كان يعرفها. هذا المشهد الافتتاحي من أقسي ما قدم مخرجو الواقعية الجديدة رغم تنفيذه بشفافية آسرة، هنا نهاية قصة حب تليق بطبقة غاربة أصبحت علي هامش الهامش، وما يتذكره عبدالرحيم مضافًا إليه تعليق الراوي العليم بكل شيء بصوت حلمي فودة يقدم لنا تفاصيل ما جري، لن نشاهد عبدالرحيم سوي في لقطات سريعة في قريته الهامشية، سنراه وهو يصطاد علي شاطئ النيل في إمبابة، ولكنه بدلاً من أن يصطاد سمكة يصطاد عصفورًا أزرق من الماء، بداية عبثية تماما لا تخلو من السخرية، عندما ندخل في التفاصيل أكثر سنجد أنه سيفشل في اصطياد أي شيء، معظم ما سنشاهده يدور حول علاقاته النسائية وفحولته الجنسية الواضحة، ستفشل علاقته مع بسيمة التي أحبها، ولكن ستطارده سمعتها كامرأة تركت أسرتها لتعيش بمفردها، وسيفشل ارتباطه بالممرضة أفكار التي لا تحب أن تقترن بفلاح يرتدي جلبابًا، وسيطلق زوجته أشجان الأرملة لأنها رفضت أن تتنازل عن المعاش الذي تحصل عليه بعد زواجها، وسينتهي الأمر بزواجه من امرأة بلا ملامح، امرأة عادية تمامًا تنجب له ثلاثة أبناء، وترافقه في رحلاته إلي المستشفي. لا يختلف عبدالرحيم في فحولته الجنسية عن القادمين من الريف في أفلام السينما المصرية من شكري سرحان في فيلمي ابن النيل وشباب امرأة إلي فتحي عبدالوهاب في فيلم فرحان ملازم آدم، المعني المباشر القريب هو أن المدينة تفرِّغ الكبت والرغبات الممنوعة، ولكن المعني الأعمق والأهم هو أن تفريغ الطاقة الجنسية هو التفريغ الوحيد المسموح به لهؤلاء البسطاء، حتي الحب لا يستطيعون الحصول عليه، وحدود الوظيفة لا تتجاوز بالنسبة لعبدالرحيم توزيع الخطابات أو قطع التذاكر بالنسبة لفرحان ملازم ادم، فليتسع الفراش لما ضاق به المجتمع. أما البهي زوج شقيقة عبدالرحيم فهو أيضًا محدود الأحلام والطموح، كل مشكلته أن مصلحة البريد التي يعمل بها أنهت معاشه في سن الستين بدلاً من سن الخامسة والستين مما سيقلِّل من المبلغ الذي سيحصل عليه شهريا، وبسبب ذلك سيشكو - مثل الفلاح الفصيح - لكل المسئولين دون جدوي، البهي غارق في الشكوي، وعبدالرحيم غارق في النساء، ونرجس غارقة في هموم منزلها الذي تنقطع عنه الكهرباء، وفي الجزء الأخير من الفيلم ستتسع الدائرة بالرجوع إلي الخلف زووم آوت حيث ستظهر شخصية أم عبدالرحيم وهي هانم الأم العجوز التي تقيم مع ابنها ويسكنها حلم استعادة أرضهم الصغيرة المفقودة، وشخصية ابن البهي الأكبر عبدالله الذي يمارس نشاطًا سياسيا يجعله مطاردًا من الشرطة طوال الوقت، هنا ثلاثة أجيال لا تستطيع أن تتحقَّق لأسباب مختلفة، وتخرج من الهامش لتدخل إليه من جديد. اللوحة النهائية واضحة المعالم إلي حد كبير لولا بعض الملاحظات مثل غموض شخصية عبدالله وغموض نشاطه السياسي، ومثل ضبابية بعض الشخصيات المساعدة في الشارع مثل شخصية أم حسين والرشيدي الذي لا نعرف لماذا هاجمه المتطرفون بالذات، ومثل الارتباك الذي قد تشعر به في تحديد زمن الأحداث بدقة، ولكن مجدي أحمد علي يقدم بالمقابل تفصيلات تمزج بين الحزن والسخرية مثل عدم معرفة عبدالرحيم بطعم التفاح لدرجة أنه يأكله بالجاز دون أي شكوي! ومثلما كانت البداية قاسية فإن النهاية لا تقل قسوة، نتابع الأجيال الثلاثة في لحظات غير مريحة: عبدالرحيم يزف إلي بسيمة في المستشفي زفاف الجثة إلي الجثة، وعبدالله يهرب من الشرطة، والجدة هانم تجري وراء عربات الكارو لتحملها إلي القرية بحثًا عن الأرض الضائعة فإذا أضفت إلي هؤلاء هذه الطفلة الصغيرة التي لا تفعل شيئًا سوي تفريغ إطارات السيارات لأصبح واضحًا أن الأجيال بأكملها تحرث في البحر، ولن تصصاد أبدًا أسماكًا ولا طيورًا. ليس هناك حواديت تقليدية، ولكنها لوحات ظاهرها البساطة وباطنها الحقيقة المؤلمة، مجدي أحمد علي ينجح بامتياز في تحويل الفشل الإنساني إلي لحظات للتأمل والتفكير، يدير ممثليه ببراعة خاصة فتحي عبدالوهاب الذي تنقل بسلاسة بين تعبيرات وانفعالات مختلفة، وعبير صبري التي قدمت أفضل أدوارها حتي الآن، ومحمود الجندي الذي قدم شخصية ثرية لا تُنسي ودلال عبدالعزيز التي قدمت شخصية نرجس في مراحلها العمرية المختلفة بصورة مقنعة ومؤثرة إجمالاً، أما مدير التصوير رمسيس مرزوق فهو الذي أعطي هذه اللوحة ألوانها السوداء والزرقاء، حتي عندما تشتعل لمبة صغيرة فإن المكان يتحول إلي مقبرة مُضيئة، المصور الكبير ينقل إلينا في اللقطات الكبيرة للوجوه مأساة لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، وتستكمل موسيقي راجح داود التأثير فتسخر أحيانًا وتبكي أحيانًا أخري، ربما طالت وتكررت بعض المشاهد الجنسية مما كان يتطلب تدخل المونتير أحمد داود، كما بدا وضع قصيدة لشكسبير من هاملت علي مشاهد حميمية لعبدالرحيم مع أشجان أمرًا غريبًا ولا يمكن فهمه، ولكن النتيجة العامة كانت جيدة ومقبولة للغاية. عبدالرحيم يصطاد عصفورًا أزرق بدلاً من الأسماك، وابن اخته عبدالله يفشل حتي في اصطياد العصافير، والأخت نرجس تحلم بلمبة تضيء لها القبر، والعروس بسيمة تُعالج بالدواء الكيماوي، كم هي مؤلمة صورتنا في المرآة،. ولكن -يا إلهي- كم هي جميلة بالأسود والأزرق!