لعله واحد من القلائل من بين النقاد السينمائيين، ليس في مصر وحدها، بل في منطقتنا العربية بأسرها، الذين حازوا ثقة واحترام المشاهدين والسينمائيين معا. الصديق العزيز علي أبوشادي، الذي خلع الأسبوع الماضي عباية الوظيفة الحكومية، وعاد إلي ارتداء عبايته الأصلية، وهي النقد والتأليف والكتابة عن معشوقته السينما. خاض علي أبوشادي طوال حياته الوظيفية العديد من المعارك الفكرية مع خفافيش الظلام، سواء أكانت داخل الرقابة، أو في هيئة قصور الثقافة، أو من خلال المهرجان القومي للسينما المصرية، أو مهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية، وأيضًا من خلال كتاباته ومؤلفاته، وأخيرًا في المجلس الأعلي للثقافة.. وقد لا يعرف البعض أن معاركه الفكرية تلك قد وضعته في عام 2000 علي قوائم المفكرين والمثقفين المهدرة دمائهم، ولكنه ظل علي موقفه لأنه كان مؤمنا بما يفعل. أذكر أنني كنت معه خارج القاهرة في نفس اليوم الذي تم فيه استدعاؤه علي عجل للمثول أمام النيابة، للتحقيق معه في واحدة من أكثر المعارك الفكرية التي خاضها ضد خفافيش الظلام، وهي قضية نشر كتاب وليمة لأعشاب البحر للكاتب السوري إبراهيم أصلان، وكيف قضي أبوشادي الليل كاملا وصباح اليوم التالي في سين وجيم، وفي النهاية خرج منتصرا، وتناسي كل ما تعرض إليه لأنه أثبت أنه مفكر من طراز فريد.. احترم نفسه، وترك منصبه بإرادته، لكنه عاد بعد إلحاح ليتولي مسئولية الحفاظ علي الخزانة السينمائية وتراث السينما المصرية، من خلال رئاسته للمركز القومي للسينما، وعاد بعدها إلي إدارة الرقابة علي المصنفات الفنية، وأخيرا لأمانة المجلس الأعلي للثقافة. وبالأمس القريب عاد علي أبوشادي إلي ساحة القضاء بحكم وظيفته كأمين عام للمجلس الأعلي للثقافة، متهما بتكريم المسيئين، في القضية التي رفعها ضده الشيخ يوسف البدري متضررا من منح المجلس جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية للدكتور سيد القمني. فكر علي أبوشادي يقول: إن الحرية لا تتجزأ، وليس لها سقف محدد للوقوف عنده، من ينتقد الرقابة علي تصريحها بعرض فيلم ما فهو شخص يعاني من الانفصام في الشخصية، ومعيار الرقابة للموافقة علي عرض فيلم ما هو عدم مخالفته للقانون وموافقة الجهة التي يمسها الفيلم، فإذا مس الفيلم الدين الإسلامي أو المسيحي وجبت موافقة الأزهر أو الكنيسة، وإذا مس الفيلم الجيش وجبت موافقة وزارة الدفاع. المشكلة ليست في الرقابة وإنما في المبدعين أنفسهم، فعندما يكون هناك مبدع قادر علي مناقشة أي قضية في إطار درامي جيد وبشجاعة بعيدة عن الابتذال والابتزاز فلابد أن نقف معه، وعندئذ سيكون لدينا ما يبرر رفع سقف الحرية لأقصي درجة ممكنة بحيث لا يصطدم بالقانون. مكتبة علي أبوشادي قدمت للقارئ العربي، ما يقرب من ثلاثين مؤلفًا في النقد السينمائي وتاريخ السينما، ناقشت جماليات وتيارات ومدارس الفيلم المصري والعربي والعالمي بشقيه القصير والطويل، مستخدما لغة مبسطة وسلسة، ورغم أنه يناقش مسائل فنية وجمالية معقدة، إلا أنه يصوغها بأسلوب رشيق وسهل بحيث يمكن لغير المتخصصين في مجال السينما أن يستوعبها دون مشقة، وهو يدعم شروحاته بأمثلة عن أفلام عربية وعالمية معروفة إذ يسهل علي القارئ أن ذكر المشهد أو اللقطة التي يقصدها أبوشادي ليقارنها بما هو مكتوب، فتترسخ الفكرة في ذهنه. من بين ما قدمه علي أبوشادي: كلاسيكيات السينما العربية الذي صدرت منه عدة أجزاء، اتجاهات السينما المصرية، أسود وأبيض، لغة السينما، الذي أعادت نشره وزارة الثقافة السورية في إطار الاحتفال بدمشق عاصمة للثقافة العام الماضي، الفن بين العمامة والدولة، السينما والسياسة، من أفلام التسعينيات، وقائع السينما المصرية في مائة عام الذي يري فيه أن لصناعة السينما تأثيرًا حيويا علي مجريات الحياة في مصر، ويعتبرها شاهدا حيا علي تاريخ مصر في القرن الماضي، بما شهده من أحداث سياسية واقتصادية لا تقتصر علي مصر فقط، وإنما تشمل العالم أجمع.. كما تعد السينما بمثابة مرآة عكست بحرفية شديدة تاريخ مصر والعالم خلال القرن المنصرم، وشكلت سندا قويا لكثير من الثورات، التي شهدتها مصر بدءًا من ثورة عرابي، مرورا بحادثة دنشواي ودور الزعيم الوطني مصطفي كامل فيها، وثورة 1919، ثم ثورة 23 يوليو 1952، وانتهاءً بما نعيشه ونحياه الآن، لذا فالسينما هي خير شاهد علي المائة عام الماضية. وأخيرًا يقول: إن السينما قبل عهد الثورة كانت تحاول أن تنتقد الملك، ولكن بشكل غير مباشر، تجنبا لحدوث تصادم، لكنها بعد الثورة، أصبحت بمثابة الحديث عن الغائب، وليس عن الحاضر، فلم يكن مسموحا، علي ما يبدو، أن يظهر الملك بوجهه، حتي إن كان نوعا من أنواع التمثيل. لقد خسرت السينما المصرية رقيبا محترما، وكسبت الثقافة السينمائية ناقدا وباحثا محترما.