منذ الانتهاء من بناء كوبري ميدان الجيزة حتي صارت تري شقتها التي في الدور الرابع علي أنها شقة في الدور الأرضي. كانت أصوات كلاكسات السيارات تزعجها دائما لكن تضاعف أثرها عندما صارت تأتيها من فوق الكوبري كأنها تنبعث من داخل شقتها، ولم تعد تتمتع بميزة عدم وجود سكان في مواجهتها يستطيعون كشفها. صار راكبو السيارات المارة فوق الكوبري قادرين علي رؤية داخل شقتها. خاصة لو كان الازدحام شديدا والسيارات متوقفة فوق الكوبري أو تسير ببطء. صارت تري وجوها تطل عليها وهي جالسة تشاهد التليفزيون في الغرفة المطلة علي الشارع. وتضطر إلي مواربة النافذة ، ثم صارت تغلقها معظم أوقات اليوم. لم تكن تتخيل أن تنتهي الأيام التي كانت لا تقلق فيها من ترك النافذة مفتوحة، وكانت تستطيع الجلوس في الغرفة أو البلكونة دون أن تجد من يراقبها. وليس الأمر مقصورًا علي الركاب بل علي الكناسين الذين يتباطأون في الكنس، فانتهاؤهم السريع من المنطقة المخصصة لهم قبل مرور المشرف عليهم يعرضهم لأن يطلب منهم إعادة كنسها مرة أخري. صاح ابنها في أحدهم ليكف عن التحديق ناحية الشقة فهز رأسه موافقا ونظر نحو الرصيف وإن ظل في مكانه يعيد كنس نفس الجزء. كانت تستطيع النظر غاضبة إلي تلك الوجوه لعلهم يفهمون تضايقها من تحديقهم فيها. لكن معني هذا أن يظل وجهها غاضبا كلما دخلت إلي البلكونة. لا تستطيع السهر إلي ما بعد منتصف الليل لذلك لم يعد أمامها سوي الفجر لتجلس في البلكونة براحتها. وقتها سيارات قليلة تعبر الكوبري وتستطيع السرحان في الفضاء الرحب، والنظر إلي السحب بأشكالها المختلفة، وكلما استطاعت تحديد شكل أمعنت النظر لتعثر علي شكل آخر. كثيرا ما راقبت السحب مع ابنها حسن وهو صغير. وكانت تشجعه علي العثور علي أكثر من شكل أشكال كثيرة ولا يكتفي بشكل واحد. وبالفعل بالفعل حب ما يثير ضحكه.دون ان تجد ما يراه. ما يشير الي سحابة ويراها تشبه خالته مثلا وقد استطالت ذقنها او كبرت اذنها او لها شنب. كان يعثر في السحب علي حيوانات وطيور والشخصيات الكرتونية المفضلة له لكن ضحكه كان يعلو عندما يشير إلي سحابة ويراها تشبه خالته مثلا وقد استطالت ذقنها أو كبرت أذنها أو لها شنب. كانت تبتسم محدقة في السحابة دون أن تجد ما يراه. وتعرف أنه يتخيل ما يثير ضحكه. لم تكن تمنعه. وتسعد بأنه يشاركها لعبتها المفضلة. وعندما تشتد سخريته من الأقرباء الذين يتخيلهم في السحب. تذكره بأنه يجب تناول الطعام. فيتركان البلكونة وحسن مازال يكمل لها وصف ذيل أحد أعمامه. لكن سرعان ما ينتهي الفجر. والفجر صار ينتهي سريعا منذ ارتفاع الكوبري. وتبدأ الوجوه في التدفق والتحديق نحوها. وتضطر إلي التواري في الداخل. أكثر من يزعجونها ركاب الميكروباص والأتوبيسات العامة الذين يمثل لهم النظر إلي الشقق المواجهة خاصة المفتوحة الشبابيك المتنفس الوحيد لهم من الزحمة والخنقة داخل السيارة. نظرات هؤلاء الركاب كأنها تبحث عن صيد في تلك الشقق تستطيع التمعن فيه وتقليبه علي أوجهه المختلفة. جربت الاستمرار في الجلوس بالبلكونة غير مهتمة بأي شيء ، لكنه شيء مزعج أن تتجاهل نظرات الآخرين التي تحاصرك وتراك شيئا ممكن أن تتسلي به أثناء الانتظار. تعرف أن زوجها المتوفي كان سيفعل مثل ابنهما حسن ويستمر كعادته قي قراءة الجريدة في البلكونة أو الجلوس مع أصدقائه دون انشغال بالكوبري. وسيردد مثل حسن أيضا " إحنا ساكنين في الشقة مش مسجونين فيها". كانت مقتنعة بكل هذا لكنه لا يفيدها. خروجها إلي الشارع صار نادرا. وكانت كل مرة تخرج فيها تثير آلام ساقيها وتجعلها تلهث كأنها سارت أميالا. بالإضافة إلي أن هذا الفضاء الرحب الذي كانت تتمتع به اعتبرته دائما جزءا من شقتها وكان يجعل مساحتها لا حدود لها ولا يدفعها إلي الحزن علي قلة مرات خروجها. كانت تذكرني بأمي حينما كانت تتأسي علي أيام كانت تستطيع فيها رؤية الأهرامات من شقتنا. الفرق بينهما أن العمارات التي ارتفعت أمامنا أخفت تماما الأهرامات ولم يعد يظهر لنا منها أي جزء. أما هذا الكوبري فقد حافظ علي الفضاء بعدما أحدث فيه شرخا طويلا. واختفاء ما كنت تستمتع به يدفعك إلي تذكره بين حين وآخر، أما استمرار وجوده وقد لحقه شرخ ما فإنه يدفعك إلي دوام تذكر الماضي كلما رأيت هذا الشرخ وإلي تمني أن تستيقظ يوما لتجد كل شيء عاد كما كان.