لا أزالُ أذكرُ وجههُ الذي يشعُ بالبِشر ، لا أزالُ أذكرهُ وأحبهُ رغم كل ما حدث .. حين كنت أحضر له وجبة الغداء إلي دكانِ بيع القماش الذي لم يعد يشتريه أحد في الفترة الاخيرة وظل يصرُ علي الذهاب إلي دكانه ، يفتحهُ ويجلسُ فيه من الصباح وحتي المغيب. كنتُ أحضرُ له غداءهُ ، فيبتسمُ لي دوماً ، لم يعد يحملني كما كان يفعل عندما كنتُ طفلةً صغيرة ، فقد صرتُ صبيةً في الخامسة عشرة من عمرها ، ومنذ أن تفتح ( زهرٌ كثيرٌ ) صار كل شيءٍ مربك ، اختلفتُ أنا وصرتُ أرتبك ، ثم انتبهت أنني لم أكن وحدي من صار يرتبك ، ارتبكوا جميعاً ، حتي هو صار يرتبك ، وبات ارتباكهُ واضحاً ، صارت نظراته إلي تتحور وتتحول لشيء لم أكن أفهمه في البداية ، ثم صرتُ أُؤوِلُهُ كما شاءت طفولاتي ، إلي أن رَجَّحت أيائلُ رغباتي الشقية ، وصرتُ أنتبهُ أكثر ، والتفت اليه فجأةً ، لأجدهُ ساهماً ، مسروقاً ، أو ساكناً هو ونظرهُ وكلهُ إلي تفصيلةٍ أهملتها من لباسي أوجسدي ، صرتُ أنتبه إلي أنه ينظر إلي بشكلٍ غريب ، ولم يكن بروحي أي إرتيابٍ بشيء ، إنما استمرار وتواصل نظراته ، اجبرني علي الانتباه ، رغم أني حاولتُ مراراً أن اهملها ، حتي صارت تتعلقُ بي وترافقني بعد أن أخرج من دكانه وأذهب ، تظل تلك النظرات ترافقني ، أطردها لتعود ، لأطردها ، إلي أن فقد قدرتهُ علي ضبط نفسه بعد أن اكتملت أُنوثتي ، وتكورت أشيائي كأجمل تكورٍ نافرٍ ومستفز ، وكنتُ أهملها ، لم اكن أخجل منها لأُخبئها ، ولم اكن أتباها بها لأُبرزها ، إنما هي الاشياء تتكونُ وتنفرُ وحدها ، وصرتُ أضحك ... هل من المعقول ، هل من الممكن . ومع تكرار ذهابي وإيابي اليه ، صارت الامور تتضح أكثر ، صارت أكثر من واضحة ، حتي صارت ضحكتي التي كنت أكتمها لتنتظرني علي زاوية دكانه تماماً ، ما ان آخذ خطوتي الاولي في الغياب عن نظره ، أضحك وأمشي بسرعة ، أضحك ولا أدري لماذا ، أضحك وادري ... لذاك الوقت ، كنت أري وأضحك ، إلي ان صار يضع بعض الأواني والادوات علي يمينه في عمق الدكان، حيث يجلسُ هو بوسطه علي كرسيه خلف الطاولة ، ويطلبُ مني أن آخذها معي للبيت ، كي اضطر للمرور في الممر الضيق بينهُ وبين الطاولة ، كنتُ أمرُ وأُدير له ظهري ، انحشر وأمرُ هويناً ، أمرُ باناةٍ ، حريصةً علي ان لا يرتطم جسدي بأشيائه التي يضعها علي الطاولة ، كان جسمي من الخلف يمرُ تماماً أمامه ، كان يَمِسُ ويُمَس ، كان يجسُ ويجس . ثم صار يرسمُ الاشياء ويوزع الاثاث ، ويلقي بأشياء علي الارض بجانبه أو تحت كرسيه الذي يعيده للخلفِ قليلاً كي ينثني جسدي عندما التقطهُ له وأعيده خصوصاً عندما تكون فتحةُ الصدر عندي أوسع قليلاً وتظهر اكثر عند انثنائي لالتقاط أشيائه الصغيرة ... كان يبدعُ في قسري علي الإتيان بحركاتٍ تظهرُ مفاتن جسدي ... ولغاية الآن كنت أضحك وأحبه ، بل كنت أفهم عليه واستجيب له استجابةً نموذجية ... ماذا سأخسرُ إن استطعتُ إسعاده ، ثم صار يفتعلُ احتكاكاً سريعاً بي ، كأن يضعُ راحتهُ أو راحتيه علي إليتيّ عندما أمرُ محشورةً بينه وبين الطاولة ويسحب جسده للخلف كي امر ، كان يمسُ جسدي سريعاً ، بخوف ،بارتباك ، برجفة، بترددٍ ، بوجلٍ ، قليلاً ، ثم صار يطيلُ ثوانيه تلك ، ثواني احتكاكه أو مسه غير المقصود ، ثم صار المسُ جساً سريعاً ، ثم صار يصاحبُ جسهُ حركةً ، كأنه يتحسسُ سريعاً ، ثم علا جنوناً ما فصار يضغطُ الاشياء براحتيه ... صار يعبثُ ... إلي أن صار يعاركني مازحاً كي يطال ، يفتعلُ مشكلةً ويعاقبني بطريقته الخاصةِ من ضربٍ خفيفٍ إلي قرصٍ أو فرك جزء ما يستفزهُ من جسدي ... وهنا عاد ارتباكي لي ، لم أعد مرتاحةً لحراكي معه ، صرتُ مرتبكةً ولم أعد أضحك فقط ، صرتُ أضحك وأبكي في طريق عودتي للبيت ، واحترت ،ماذا أفعل ؟ هل أواصلُ تماشيّ معه ، هل أواصلُ انسياقي ... هل ثمة ما أخسره. لم يكن يستشيرني ، كان يرتبُ أشياء متعته وتفاصيلها بدقةٍ واحتراف ، كان دوماً يبادرُ ويفاجئني بوضعٍ جديد ، بشيءٍ جديد ... جسدي بيت التواطئات ، منجمها ، منه الابتداء وله المنتهي ... لذا صرتُ أتواطأُ معي ومع الجميع بكل اشيائهم ، تواطأتُ وسكتُ عن كثير من الاشياء التي صارت تحدث معي منذها ، وأنا للآن لم أبُح بأي شيء حدث بيني وبينه بعد ليلة الصيف تلك ، والبيتُ خالٍ إلا مني ومنه ، أذ أن كل ما حدث ليلتها وما بعدها لم يكن إلا حلم ليلة صيفٍ لرجلٍ يغادرُ العمر متجهاً نحو الانتهاء ، ربما يكون هذا الحلم قد تواصل بعدها ليلاً أو نهاراً ، نوماً أو يقظه ، إنما شيءٌ فيّ ، في جسدي قرر أن يتواطأ معه ، شيءٌ داخلي لم يكن يستطيع منعه من أن يفعل بجسدي ما يشاء ، تناقضٌ حاد كان يصطرعُ في داخلي ، وقوي جذبٍ بألف اتجاه تحاول سحبي لموقفٍ ، لفعلٍ ، لرأيٍ ، إنما ظللتُ ساكنةً حين كانت يداهُ تجوسان كل مسامٍ في جسدي ، وكنتُ أفتعلُ النوم حيناً واقيمُ في إغفاءاتي تلك ، وهويذرفُ كل رغباتِهِ وشهواته علي جسدي ، وكان يعرفُ أنني فقط أُغمضُ عينييّ ولستُ نائمةً ، ربما يكون هذا ما شجعه علي الاستمرار والايغال ، ربما شعر أنني كنتُ استمتع بيديه وأصابعه تجوسُ الإثارةَ الكامنة في جسدي وتشعلُ فيّ كل جنون ، ربما لمح طرفَ ابتسامةِ رضا مرسومةٍ علي أطرافِ غفوتي ، ربما شكل ارتخاء جسدي أو انفراجِهِ ليديه وجسده ، ربما طُرقُ تقلبي التي كانت لأي شيءٍ سوي ابعاده أو طلب التوقف عن الفعل .... جسدانِ محرمانِ يفعلان الفحش مُغمِضين منهما كلَ العيون ، وجينات الجنون تقود التيه والعبث والاصابع ، بِمَسها اللذيذ تقترب أكثر لتغطي العري وتمد يدها نحو ملابسي الداخلية ، تغطيني لتنزع ملابسي عني وتجوس هناك في الانهار ، ينلمسُ الشفا لأصير أخري غيري تنادي النفي فيّ ، ذاك النفي الذي أُلقيتُ في جُبهِ ورُميتُ به منذُ تَكور نهداي ، وتكور كل شيءٍ في جسدي ، رُميتُ وحدي هناك ، ولم ينتبه لي أحد ، كلهم كانوا يزيحون النظر عني ، ولم يكلمني أحدٌ عنه ، حتي صار هو لعبتي التي أُعابثها فترسلني لإثارةٍ أجملُ من أي شيء في الوجود ، متعة لا مثيل لها ، موتٌ جميلٌ وخدرٌ لذيذ ، جنانٌ مطلقةٌ واحاسيس فذةٌ ولذاذاتٍ وذري قممٌ ،وقممُ عوالمٍ كانت ترسلني إليها يداي وأنا أعبثُ وحيدةً في جسدي ... فبماذا سأشعرُ عندما يُزالُ عني تعبُ الفعلِ والركضُ وراء المتعةِ ، عندما لا يكون مطلوباً مني سوي أن استلقي واغمض عينيّ ، ويفعلُ آخرُ بي أكثر مما كنتُ أفعل ، يوصلني لأكثر مما كنت أصل يوصلني ويقطِّني بألف قطعٍ ووصلٍ ووصول ، ويَصلُ أشياءهُ بي كل أشيائهِ الموصلات ، لأكتشف أن كل الذري التي كنتُ أتوهمها ذراً ، ليست إلا عتباتٍ صغيرةٍ ، ما ان يعتليني حتي أراها حتي يوصلني لها وبها... كان عبثي بي موتٌ ، صارعبثهُ يرسلني لما بعد الموت ، لما فوق القمم ، لذا كنتُ أفتعلُ النوم ، كنتُ أنامُ راضيةً أو بجسدٍ راضٍ ، ولم يكن شعور الذنبِ يمرُ إلا لماما ، كان يمرُ بخاطري مر السحاب. عبد السلام صالح: روائي، صدر له "المحظية" (دار أزمنة)، "أرواح برية" (دار أزمنة)، "صرّة المر" (الفارابي)، والنص هو الفصل الأول من صرة المرّ، روايته الأخيرة.