دُهِشَ ريشة بطل الشاعر هنري ميشو حين مدَّ يده خارج الفراش، ولم تلمس جداراً. قال في نفسه: لا بد أن النمل أكله. والتمس العذر للنمل قائلاً: يضطهدُ النمل جداراً، لكنْ قبل ذلك يضطهدُ آكل النمل العملاق بيوتَ النمل. تذكَّر ريشة من فيلم تسجيلي عن النمل أن آكل النمل العملاق بلسانه الطويل اللزج، يشفط النمل، وكأنه يشربه. ثلاثون ألف نملة الحد الأدني في اليوم لبقاء آكل النمل العملاق علي قيد الحياة. عاد ريشة للنوم. بعد قليل أيقظته الزوجة قائلةً: أنظر يا مُغفَّل سرقوا بيتنا حينما كنتَ غارقاً في النوم. وبالفعل كانت السماء تمتد من كل الجهات. فكَّر ريشة بأنه كما تدين تُدان. بعد قليل سمعا هزيم قطار، وأحسَّا برجفة الأرض تحتهما. كان يمر فوقهما بأقصي سرعة. قال ريشة: ما دام علي هذه السرعة، سيصل قبلنا حتماً. وعاد إلي النوم. بعد قليل أيقظه البرد. كان مغموراً بالدماء، وأشلاء زوجته تتناثر قربه. قال ريشة: مع الدماء تولد الهموم، لو كان بوسع القطار ألا يمر، لكنتُ سعيداً الآن، لكنْ ما دام قد مر، والتمس العذر للقطار أيضاً كما التمسه للنمل. وعاد للنوم. قال القاضي: كيف تُفسِّر تمزُّق زوجتكَ إلي ثماني قِطَع، دون أن تتمكَّن وأنتَ بجانبها، من مجرد مُحاوَلَة إنقاذها. لم يستطع ريشة الإجابة علي سؤال القاضي. وعاد إلي النوم. نطق القاضي بحكم السجن المؤبَّد علي المتهم. استيقظ ريشة بعد لحظات. قال غافلاً عن حكمه المؤبَّد: هل تعلم سيدي القاضي أن عُمَّالَ بناءٍ في مدينة كوثكو، في جنوبي البيرو، عثروا علي حفرية لحيوان أرماديلو مُدرَّع عملاق عاش قبل مليوني سنة، وكان يساوي حجم سيارة فولكس واغن من نوع البيتل، وأوضح عَالِم الآثار في معهد الثقافة الوطني بيدرو لونا، أن العُمَّال كانوا يعملون داخل منزل خاص حين اكتشفوا المُفاجأة السارة أثناء الحفر، وكانت أنواع الأرماديلو قد تطورت قبل حوالي خمسين مليون سنة في أميركا الجنوبية، والنموذج الذي وُجِدَ في كوثكو من نوع غليبتودون، وهو أحد أضخم حيوانات الأرماديلو القديمة من العصر الجليدي، وأشار لونا إلي أن الحيوان ظهر قبل مليوني سنة قبل الميلاد، وانقرض قبل ما بين عشرة آلاف سنة وخمسة عشر ألف سنة قبل الميلاد بسبب التجمد، وشرح ان طول الحفرية يزيد علي المترين، بما في ذلك الذيل، وعرضها يزيد علي المتر، في حين يبلغ متوسط ارتفاعها متراً منقوصاً منه خمسة سنتيمترات، وأضاف لونا أن هذه هي خامس حفرية من هذا النوع يتم العثور عليها في كوثكو. ابتسم ريشة للقاضي، وقال بنبرة ذات معنًي دفين: والأرماديلو القديم وسلفه الحديث الأصغر حجماً من آكلي النمل. تراجع القاضي في حكمه، وحكم ببراءة ريشة لعدم مُتابعته للقضية. خرج ريشة من المحكمة بألم في إصبعه. استشار طبيباً. قال الطبيب الجرَّاح لريشة مستبشراً: هذا إصبع جاهز للقطع، سيستغرق مع التخدير خمس دقائق، ليست بكَ حاجة إلي الكثير من الأصابع، وسأكون سعيداً بأن أجري لكَ هذه العملية الصغيرة، وسأريكَ بضعة نماذج من أصابع اصطناعية، نماذج رشيقة جداً، وهي غالية الثمن، لكنْ من الطبيعي ألا يسأل أحد عن الثمن حين يراها. نظر ريشة بكآبة إلي إصبعه وقال: سيدي الطبيب، هذه هي السبَّابة، وهي تُستعمل كثيراً كما تعلم. إنني مُلزم الآن بأن أكتب للجريدة، وأنا أعتمد دائماً علي السبَّابة عند الكتابة. الجريدة لا تسمح بتأخير. سأعود إليكَ خلال أيام. قال الجرَّاح: لا تهتم، هنا أوراق، كلمات قليلة منكَ تعيد للجريدة تسامحها. طلب الجرَّاح من الممرضة تجهيز غرفة العمليات. قال ريشة: أنتَ تري يدي ترتجف، وهذا أقوي من إرادتي. قال الطبيب: طيب.. الأفضل لكَ صراحةً ألا تكتب للجريدة، أنتَ تكتب بانتظام مقالاً أسبوعياً، هذا نزيف لا يتحمله أحد. في بيت شقيقة ريشة قالت الشقيقة: كان في وسعكَ أن تأخذ رأيي علي الأقل، أنت الآن بلا بيت، وبلا زوجة، ومقيم عندي إلي أجل غير معلوم، وسمعتُ أن ذوي العاهات يتحولون بسرعة إلي أشرار ساديين، لا تعتمد علي كثيراً. قال ريشة: اسمعي.. ما زال عندي تسعة أصابع. دخل ريشة غرفته مهموماً، وفي لحظة شرود، مشي ريشة برجليه علي السقف، بدلاً من الاحتفاظ بهما علي الأرض. تجمَّع الدم في رأسه. رأي أرض الغرفة بعيدة. أخذ القرار. سيبقي هكذا وحيداً علي سقف غرفته، وسيقطع كل وسيلة للنزول، كما قطع الجرَّاح إصبعه. [email protected]