رشاعَ بينَ الناسِ علي جميع المستوياتِ اصطلاحُ التطرفِ والمتطرفينَ كما شاعَ كذلكَ اصطلاحُ الإرهابِ والإرهابيينَ وأصبحَ كلٌ من هذِه الكلماتِ يطلقُ بلا تحديد لماهية هذه الكلمة أو اصطلاحها، وتحديد معني الاصطلاح وتحريره مهم جدًا في معالجةِ ما اصطلح عليه لغةً أو اصطلاحًا بالتطرف حتي لا نبتعد عن حقيقة الاصطلاح وعن جدية المعالجةِ وجدواها. جاء في المعجم الوجيز تَطَرّفَ أتي الطَّرَفَ أي جاوز حدّ الاعتدال ولم يتوسط. إذن المتطرف من جاوز حد الاعتدال وإلي هنا لا يختلف الناس في هذا المعني وإنما الاختلاف ينشأ من تطبيقاته إما عن اجتهاد وحسن نية وإما عن هوي وسوء نية وجهل، وبالتالي إذا أردنا علاجًا حقيقيا للتطرف بصفة عامة والتطرف الديني بصفة خاصة والذي هو محل هذا المقال علينا أن نُحسّن النية ونغالب الهوي والمصالح الشخصية وتتحركُ كلُ الجهودِ بهذا الإخلاص بعلم صحيح وفهم دقيق مع مجهود لا يعرف الكلل أو الملل. والآنَ نأتي إلي كيف نحكم علي القول أو الفعل بأنه تطرف أو غلو؟ الإجابة علي ذلك واضحة وبسيطة وتتمثل في الوحيين كتاب الله وسنة النبي - صلي الله عليه وسلم - الثابتة بالإسناد الصحيح وبالشروط التي اتفق عليها العلماءُ لضبطِ الروايةِ والإسناد لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - خاصة أنه قد ورد ترهيبٌ شديدٌ فيمن يكذب علي رسولِ الله فينسبُ له كلامًا لم يقله أو يدعي فعلًا لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - والحقيقة أنه لم يفعله، أو يدعي إقرارًا لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - لقول أو فعل والحقيقة غيرُ ذلك، ولا شك أن هذا العلم المتعلقَ بالروايةِ علمٌ دقيق تخصص فيه أبرعُ الأئمةِ وأجلدهم علي المثابرةِ والبحثِ، والحمد لله فقد جمعوا -أئمةُ السلف الصالح- دواوين السنة وشروحَها بل تكلموا في غرائبها وفي ناسخها ومنسوخها وما علينا إلا أن نطالع منهجهم وآراءهم لنحدد ماهية ما نطرحه للمناقشةِ، ومن المعلوم ضرورة عقيدة وشريعة وعقلًا أن أوسطَ الخلق وأعدَلَهم وأرحمهم هو رسولُ الله - صلي الله عليه وسلم - ثم من جاءوا من بعده من أصحابه الذين زكاهم الوحي في القرآن بصريح الآيات وزكاهم الرسول - صلي الله عليه وسلم - بما هو متواترٌ عنه قولًا وفعلًا وتقريرًا. والحديث هنا ليس مُنصَبًّا علي ما يطرأ من مستجدات الأمور وإنما الحديث عن العقائدِ والعباداتِ والفرائضِ المحكمةِ والتي لا تحتملُ أي خلافِ في أصلها،أما ما دون العقائد والعبادات من معاملات أو تشريعات فلينظر هل من إجماع ثابت فيكون حاسمًا لأي خلاف، وإن حدث خلاف قديم في هذه التشريعات فليسعنا هذا الخلاف بلا تنافر ولا تدابر ولا تنابذ فهذا قدر كوني حكم الله به علي العباد قال تعالي: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) هود آية: (118). إذن علينا أن نحسن التحاور والمجادلة بالتي هي أحسن فيما اختلف فيه مع تحريرِ مسائلِ الخلافِ بدقةِ وتجردِ مع تأكيدٍ علي وحدةِ صف الجماعةِ السياسيةِ أي وحدة الدولة وقيادتها. هذه المقدمة لابد منها حتي نأتي إلي التطبيق العملي الذي يوضح المقصود من عنوان المقال كمحاولة بسيطة لحشد الجهود لتثبيت الأصول والأركان سواء ما كان متعلقًا بالدين أو بالدنيا، فحتي نحكم علي الفعل أو القول بأنه غلو أو تطرف علينا أن نسأل ونبحث عند من نصفه بهذا الوصف ما هي حجته وما هو منطقه وما هو فهمه؟ فقد تكون له حجة معتبرة بصريح المنقول أو صحيح المعقول فحينئذ لا ينبغي أن يوصف من لديه تلك الحجتان بالتطرف أو الغلو اللهم إلا إذا أراد أن يفرض حجته بالعنف أو الإرهاب فيكون كذلك مرفوضًا وإن كان أصله حقًا، لأن الإسلام بأحكامه المتواترة وتطبيقاته العملية لا يعرف إكراهًا علي دينٍ أو فعل إلا لمن كانت له ولايةٌ شرعيةٌ ويقدرَ علي حمل الناس علي هذا القول أو الفعل دون مفسدة أو فتنة. والمقصود بالولاية الشرعية هنا هو الحاكم الممكن المتغلب المسلم الذي دانت له بقعة معينة بكل مؤسساتها العسكرية والأمنية والمدنية، وكذلك الولايات الخاصة التي للأزواج علي زوجاتهم أو للآباء علي أبنائهم دون إفراط أو تفريط والذي لا يتأتي في كل الأحوال بدون علم كاف. فمثلاً هناك مظاهر لبعض المتدينين كمن يلبس ثوبًا قصيرًا فلا ينبغي أن يوصف هذا الفعل بالتطرف لأنه له وجهة شرعية وإنما يوصف بالتطرف والغلو إذا جعل ذلك من الأركان والأصول أو حمل الناس علي ذلك بالترهيب والعنف أو أصر علي هذا الزي في أماكنَ تستلزمُ دواعي الأمن والسلامة بالأزياء المتعارف عليها كملابس عمال المصانع والتي لا يصلح فيها بأي حال أن يصر المتدين علي ثوبه فإن أصر فيوصف إصراره بالتطرف والغلو وهنا ينبغي أن يتدخل من بيده الأمر. أما رجل يذهب بثوبه القصير إلي المسجد أو إلي متجره أو إلي وظيفته التي لا تطلب زيا معينًا اقتضته مصلحة العمل وفق ما يقره ولي الأمر فلا حرج عليه ولا مجال لنعته بالتطرف أو بالتخلف كما يحلو للبعض، وأذكر علي سبيل المثال منذ عشرين عامًا أو أكثر ارتدي لاعبُ كرةٍ للسلة شورتًا إلي الركبة فإذا بالمعلقين يسخرون وبأقلام الكاريكاتير خرجت النكات والطرائف وأطلق علي ذلك تهكمًا الشورت الشرعي. ودارت الأيام فإذا بموضة هذا الزمان أن نري رجالًا وشبابًا وصبيانًا يلبسون هذا الشورت (برمودا) إلي نصف الساق أو الركبتين ليس في الملاعب فحسب وإنما في الشوارع وفي الطرقات والمنتديات ولم نسمع تهكمًا أو سخرية أو اتهامًا بتخلف ورجعية مع أن الفعلين متشابهان. وكذلك رأينا في السنوات المتأخرة إطلاق بعض الشبابِ والرجالِ لحاهم فليس لنا أن نصفهم بالتطرف والغلو لمجرد إطلاق لحاهم لأن ذلك له دليله الشرعي ما لم يشتد هؤلاء علي مخالفيهم جاعلين إطلاق اللحي من الأركان والأصول مع لفت الانتباه أن مثل هذه المظاهر أو غيرها مما له أصل شرعي لا تدل علي كمال الإيمان أو علي تزكية صاحبها أو اعتباره من أهل العلم أو اعتباره معصومًا وإنما ذلك مجردُ فعلِ في ظاهره الحسن أما حقيقة الإيمان وكمالُه فمحلها القلب وعلمها عند الله وبالتالي فيتصور في الملتحينَ المتدينينَ منهم أو المحتالين أخطاءٌ وكبائرُ لأنهم غير معصومين فقديمًا في الصدر الأول وقد كانوا يلتزمون بمثل هذه المظاهر ومع ذلك فقد جاء ماعز وهو صحابي - رضي الله عنه - واعترف بارتكابه الفاحشة وأصر علي تطهيره منها رغم إعراض الرسول عنه، وها هي المرأة الشريفة المخزومية في الصدر الأول تسرق ويطبق عليها الحد وقد كانت محجبةً، فلابد أن ننظر للأمر بواقعية ووسطية فإذا جاء ملتحٍ قوام صوام فاعل للخيرات فحمل علينا السلاح وأراق الدماء المعصومة فلا تشفع له لحيته وثوبه القصير وصيامُه وقيامُه ويطبق عليه القصاصُ أو حد الحرابة. إذن مظاهر التدين وإن كانت حسنة في ذاتها لكنها لا تزكي صاحبها وإنما الذي يزكي صاحبها معتقده وفكره وعمله وإخلاصه وهمته ودوره الإيجابي في مجتمعه. وإذا جئنا إلي المرأة التي ألزمت نفسها بزي معين حجاب ونقاب أو حجاب بدون نقاب فلا ينبغي أن نصف هذا المظهر بالتطرف والغلو طالما أن مثل هذه المرأة المنتقبة قد التزمت بالآداب العامة التي توضع لتسيير المصالح العامة والتزمت بوقارها وأخلاقها وعقيدتها وعملها وعلمها ودورها الإيجابي في محيط مسئوليتها في الأسرة أو المجتمع، فإذا جاءت منتقبة تريد مخالفة النظام العام بزعم وجوب النقاب فلابد من حسم ذلك بالضوابط الشرعية فمثلًا المنتقبة التي لا تسفر عن وجهها في فتح حساب بالبنك أو تريد سحب مال من حسابها دون كشف عن هُوِّيتها فلا يتعامل معها وعليها أن تعود أدراجها إلي بيتها ما لم تسفر عن وجهها وهكذا يكون التعامل مع تلك الحالاتِ دون إثارة خلافات فقهية ودون سخريةٍ تؤدي إلي ترسيخ أحقاد وغل داخل المجتمع. وللحديث بقية