حماة الوطن بالقاهرة: لدينا القدرة للمنافسة على جميع المقاعد وكوادرنا مؤهلة    تنظيم الاتصالات: بدء فصل الخدمة عن الهواتف المستخدمة في المكالمات الترويجية الأحد    دياب اللوح: الموقف المصرى من القضية الفلسطينية محورى وثابت ومركزى    الإمارات تخلي 155 مصابًا ومريضًا من غزة برفقة ذويهم    قائمة الزمالك - عودة فتوح وبانزا ضد مودرن سبورت.. وغياب سداسي    انقذته وجبة الإفطار.. مأساة أب ودّع أسرته تحت أنقاض عقار الزقازيق (صور)    إصابة 4 أشخاص في حادث انقلاب بطريق أسيوط - الفرافرة    وائل كفوري يحتفل بمولودته الجديدة    ب"فستان جريء".. 20 صورة لإطلالة بوسي الجديدة وعبير صبري تعلق (صور)    بسعة 350 سريرًا وتكلفة 2.175 مليارجنيه.. وزير الصحة يتفقد مشروع إنشاء مستشفى التأمين الصحي بالعاصمة الإدارية (صور )    قوات الاحتلال تبدأ عملية "عربات جدعون 2" للسيطرة على غزة والمقاومة تهاجم موقعا للجيش الصهيوني    اعتماد 7 مدارس ثانوية فنية للتمريض بمحافظة الإسكندرية    الأزهر: انتظام امتحانات الدور الثاني للثانوية الأزهرية في هدوء وانضباط كامل    شروط الالتحاق بأقسام آداب القاهرة للطلاب المستجدين 2025 (انتساب موجه)    ما الفرق بين التبديل والتزوير في القرآن الكريم؟.. خالد الجندي يوضح    مسئول فلسطيني يدعو المجتمع الدولي إلىاختصار الوقت في مواجهة إرهاب الاحتلال    ضمن جهوده المجتمعية .. حزب حماة الوطن ينظم رحلات عمرة مجانية    عانى من كسرين في القدم.. تفاصيل جراحة مروان حمدي وموعد عودته للمباريات    محافظ الغربية: ملف المخلفات على رأس أولويات تحسين جودة الحياة للمواطنين    بينها فساتين قصيرة وجريئة.. ياسمين رئيس تنشر فيديو لإطلالات مختلفة لها بالصيف    تعرف على قصة مسلسل سنجل مازر فازر بطولة ريهام عبد الغفور وشريف سلامة    مناقشات وورش حكي بالغربية ضمن فعاليات المبادرة الصيفية "ارسم بسمة"    وفاة ابن شقيقة المطرب السعودي رابح صقر    مالي: مقتل أكثر من 149 جنديًا بهجمات لتنظيم القاعدة    أمين الفتوى يوضح الفرق بين الاكتئاب والفتور في العبادة (فيديو)    طلقها وبعد 4 أشهر تريد العودة لزوجها فكيف تكون الرجعة؟.. أمين الفتوى يوضح    المنشاوي يهنئ طلاب جامعة أسيوط بحصد 9 جوائز في مهرجان الطرب للموسيقى والغناء    غدر الذكاء الاصطناعى    في يومه العالمي- متى تسبب لدغات البعوض الوفاة؟    إيران تدرس إرسال وفد إلى فيينا لاستئناف المحادثات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية    «يتحمل المسؤولية».. نجم ليفربول يتغنى ب محمد صلاح    بيع مؤسسي يضغط سوق المال.. والصفقات تنقذ السيولة    الأوقاف تعقد 681 ندوة بعنوان "حفظ الجوارح عن المعاصى والمخالفات"    الزمالك يكشف عن موعد التصفيات النهائية لاختبارات البراعم    البيئة تناقش آليات تعزيز صمود المجتمعات الريفية أمام التغيرات المناخية بقنا    طقس غد.. حار بأغلب الأنحاء ونشاط رياح واضطراب الملاحة والعظمى بالقاهرة 35    كنوز| 101 شمعة لفيلسوف الأدب الأشهر فى شارع صاحبة الجلالة    مدبولي لقادة الدول: حان الوقت لاتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة لردع العدوان الإسرائيلي والاعتراف بالدولة الفلسطينية    حملة موسعة على منشآت الرعاية الأولية في المنوفية    تحرير 7 محاضر لمحلات جزارة ودواجن بمدينة مرسى مطروح    إزالة 19 حالة تعد على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة في المنيا    محافظ الإسماعيلية يتفقد عددا من القطاعات الخدمية ويستمع للمواطنين بمركز أمراض الكلى    تعرف على مواجهات الزمالك في دوري الكرة النسائية للموسم الجديد    عمر طاهر على شاشة التليفزيون المصري قريبا    ضبط المتهمين بالتنقيب عن الآثار داخل عقار بالخليفة    كيف يكون بر الوالدين بعد وفاتهما؟.. الإفتاء تجيب    تحرك عاجل من "سلامة الغذاء" بشأن شكوى مواطن من مطعم بالبحيرة    وزير الدفاع يلتقي مقاتلي المنطقة الشمالية.. ويطالب بالاستعداد القتالي الدائم والتدريب الجاد    محافظ القاهرة يقرر النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بالثانوي العام    تعرف على مواقيت الصلوات الخمس اليوم الأربعاء 20 اغسطس 2025 بمحافظة بورسعيد    انطلاق ملتقى الشباب العربي الياباني في الجامعة العربية    وسام أبو علي: التتويج بالبطولات سبب انضمامي إلى كولومبوس    الاحتلال الإسرائيلي يقتل نجم كرة السلة الفلسطينى محمد شعلان أثناء محاولته الحصول على المساعدات    أحمد ياسر: كهربا يمر بظروف صعبة في ليبيا... ولا يصلح للعب في الأهلي والزمالك    نيوكاسل ردا على إيزاك: لم يتم إبلاغه أن بإمكانه الرحيل.. ونرحب بعودته    رئيس الوزراء: أدعو الطلاب اليابانيين للدراسة في مصر    انطلاق القطار السادس للعودة الطوعية للسودانيين من محطة مصر (صور)    ترامب: رئيس البنك المركزي يضر بقطاع الإسكان وعليه خفض أسعار الفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مكاشفات نقدية جديدة في إشكاليات محمد حسنين هيكل
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 06 - 10 - 2009


شاهبندر الفبركة الإعلامية البقاء في حلقة مفرغة
حكيت لكم في مقدماتي عبر الحلقات الماضية قصتي مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، وقد غدت معروفة للجميع، ولا داعي لأن يلوك البعض التهم ويلقيها جزافاً، فمشروعنا هذا، فردي مستقل ونظيف عن تدخل أي كيان سياسي أو حزب أيديولوجي أو دولة أو نظام حكم.. وكما قلت: إن كل جديد أقدّمه في نقد أفكار الأستاذ هيكل وتصريحاته، إنما يصبّ أساسا في مصبّ "التفكيك" الذي أزعم أنني قد نجحت في تحديد ما أردت قوله تنظيراً وممارسة، وها نحن ذا نراقب عن كثب كتاباته وتصريحاته منذ قرابة عشر سنوات علي صدور كتابي: "تفكيك هيكل".
إذ أجده في بعض منها قد تخلّي عن أفكاره القديمة، ولكنه بقي يدور في الحلقة المفرغة نفسها وعلي المنوال ذاته الذي اختطه لنفسه سيكولوجيا وسياسياً وإعلاميا، إذ يري نفسه وحده بما يقوله من حكايات أو ما يسجله من نصوص، ولا يري أي واحد من الآخرين أبداً إلا أن يكونوا من المستمعين.. إنه يري ما ينسجه خياله فيقوله بعد أن يؤمن به إيماناً كبيراً، وينسي أنه في زمن مختلف اليوم عن الأزمان الماضية التي كانت لا تري إلا إياه، ولم يزل حتي اليوم بعيداً كل البعد عن حقائق الحياة العربية وعن الواقع العربي الذي يزدحم يوماً بعد آخر بالمشكلات والمعضلات الصعبة المعيشية والاجتماعية والتربوية.. وليس السياسية ولا شيء غير السياسة عنده، وكأن الناس لا شغل عندهم ولا مشغلة إلا ما يشغل بالهم ذاك الزمن الثوري وساعات العمل الثوري وشعارات الوحدة والاشتراكية.. الخ ،إنه عندما يتحدث، وكأنه أسطوانة تنعش من تبقّي من أبناء ذاك الجيل الذي كان ولم يزل يعيش الأوهام.. علما بأن أعداداً كبري من ذاك الجيل ندمت وهي تتأسف اليوم كيف أضاعت كل الزمن بالهوس الثوري والهتافات مع يعيش ويسقط! إن هيكل لم يعد له سوقه الذي كان يعد من أكبر تجاره، بل كان يتصدر رواقاته كونه شاهبندر كل التجارات الإعلامية والسياسية! إنه اليوم يتحدث طويلا، ويقفز هنا أو هناك من دون أن يري جذور مشاكل المنطقة ومن الذي ساهم في خلقها علي امتداد نصف قرن مضي من ساسة مضوا إلي حال سبيلهم كان مؤيداً لهم ومناصراً لسياساتهم البليدة.. إنني أعجب جدا من رجل عالي الثقافة ويعد من سدنة الصحافة العربية المعاصرة.. لم يستطع أن يغيّر من نهجه وأسلوبه مقارنة بما يحمله من متغيرات في الرؤية والتفكير .
حوار ورؤية من دون تصفية حسابات
ولا أريد أن يكون كل ما أكتبه إزاء الرجل يعده الآخرون - خصوصا من مؤيديه وأنصاره وأصدقائه- بمثابة تصفية حساب بيني وبينه، فهو- كما يبدو- باستطاعته أن يبلع الطعم من بعض الذين ينتقدونه في مصر باعتبارهم من "الإخوة المصريين" كما قال لي أحد أصدقائي من مصر الحبيبة-، ولكنه لا يستطيع البتة أن يبلع أي طعم من الآخرين غير المصريين لأسباب لا أريد أن أفهمها، وأنا أعرفها تمام المعرفة.. إذ لا أعاني أبداً من عقدة التماهي أو التباهي أبداً، إذ لدي من الإخوة والأصدقاء والأحبة المصريين من وقف إلي جانبي وقفة مشرفة لا أنساها.. ولا أريد من الإخوة العرب (والناصريين في مقدمتهم) الذين تسيطر عليهم عواطفهم السياسية والايديولوجية أن يطلقوا الاتهامات ذات الشمال وذات اليمين.. فلست طالب جاه أو مقام أو شهرة، فكلها أمتلكها، ولست إلا بناقدٍ يفكر بالنص ومقول القول، أي الخطاب، وأيضا لست إلا ذلك المؤرخ المختص الذي له رؤيته المتواضعة وقدرته علي مجابهة كل الخطل السياسي ومحاسبة كل من يتعمد تشويه تاريخ معين وكل من غطس في التناقضات ومعمياتها .
لقد قال لي أحد الأصدقاء قبل سنوات عندما نشرت "تفكيك هيكل": لماذا تنزل نفسك إلي مستوي أدني من تخصصك العلمي؟ أجبته: إنني لست في حوار مع الرجل، بل إنني ناقد لنصوصه، والنقد أثمن وأجدي من أي نص.. وعليه، فمن حق الرجل أن يسكت كي أكون فارضاً ما أكتبه من نقدات، خصوصا أنني قد طرحت أسئلة عدة لم يستطع الإجابة عنها حتي اليوم وبعد سنوات طوال، ولم تكن أسئلة تعجيزية أو فلسفية، إذ إنني أدرك أنه من أبعد الناس عن فلسفة العلم والمنهج، ولكنها أسئلة تخص مصادره ومراجعه التي لا يمكن أبداً الاطمئنان لما يذكره منها باسم (الوثائق).. علما بأن الوثائق رسمية للغاية، وليس فيها كل ما يسهب فيه من تفاصيل.. نعم، إنه لم يجب عن الأسئلة أبداً، وكان من حقه أن يقول شيئا بصددها حتي إن لم يخصني بالذكر، ولكن ليس من حق الرجل أن يجعل الآخرين يجيبون بالنيابة عنه، ويتخذون المواقف ويتبعون أسلوب القدح والذم علي ما أقول وكأننا نعيش حقبة حكم ثوري، أو يتدخلون في أمر لا يعنيهم، فالأمر سجال بيني وبينه قبل أن يطوينا الردي.
مشكلة نص ومنهج وتباين رؤية وتفكير
إن مشكلتنا ليست معه شخصياً كصحفي كبير نجلّه ونحترم ذاته، ولكن مشكلتنا مع أعماله ونصوصه وأحاديثه التي نشخّص فيها بعض أخطائه وتصريحاته وتناقضات ما يقول هنا أو ما يدعيه هناك.. والتي لا نتفق معها أبداً، كونها تأتي في أوقات معينة لحسابات تدور في عقل صاحبها.. وأنها لا تستند إلي أي مصدر، وأنها لا تناقش الرأي الآخر، فكل من له رأي مخالف، فهو مهمل عند هيكل، وما أكثر الذين سجّلوا حقائق وآراء ومعلومات تخالف ما ذهب إليه.. ناهيكم عن كون أحاديثه وأفكاره تسيء ولا تخدم الواقع المضني.. فضلا عن كونها وليدة إرث من المفبركات التي أوهت الحياة العربية علي مدي خمسين سنة مضت .
إن محمد حسنين هيكل يختار الوقت المناسب لإطلاق أثقاله الساخنة وألعابه النارية وباتجاهات مختلفة، فإما تجده يكشف عن (معلومات سرية) شخصية عن زعماء وقادة عرب بعد رحيلهم مباشرة وكأنه كان معهم، أو تجده يؤلف الكتب وينشر المقالات بعد أن تضع أي حرب أوزارها وكأنه ساهم في إضرام فتيلها أو إخماد نارها، أو أنه يمثل ويشخص أمامك سلسلة أحاديث دقيقة جداً في تواريخها وأزمانها كي يقول للعالم، هأنذا أمتلك ذاكرة لا يمكن لأي واحد من البشر أن يمتلكها.. وقد رأينا كيف جعل من نفسه مهندساً لثورة عبدالناصر عام 1952 وكأنه الرجل المسيطر علي اللواء محمد نجيب.. أو نجده يأخذ اتجاهه الآخر، بحيث يتمكن أن يطلق الانتقادات ضد دولة معينة ببرودة أعصاب، ولا ندري ما الغرض الذي يجعله ينال من هذا الكيان، أو ذاك النظام، أو تلك الدولة وهي تمر بأكثر من أزمة ! والأسباب معروفة والنتائج معروفة.
هيكل هذه الأيام
يبدو أن الرجل لم يغيّر من أسلوبه ولم يغّير من نهجه أو طريقته أو سيكولوجية نصوصه.. ولا يبدو أن الصحفي القديم محمد حسنين هيكل قد وجد منذ نهايات العام 2004 متنفساً له في قناة الجزيرة الفضائية، بعد أن كان قد أعلن تقاعده عن الكتابة والنشر.. وكان وقت ذاك قد صاحب إطلاق انسحابه عن الكتابة والنشر والإعلام طنّة ورنّة.. نعم، وقت ذاك تمنيت عليه ألا يتوقّف عن الكتابة أو يتقاعد عن مهنته القديمة قبل أن يصفّي حساباته مع ما كان قد نشره في أغلب كتبه من مغالطات وأخطاء وتجاوزات ومفبركات ويحاول أن يصحّح الأخطاء، ويصّوب التجاوزات من دون أن يرد علي منتقديه المعروفين من الساسة والمفكرين والمختصين.. ولكنه لم يفعل ذلك، وسيكون التاريخ الحكم بيننا وعلينا جميعا.
ولكن الرجل، بالرغم من صنعه الضوضاء، فقد قيل إنه أراد أن يعيد تسليط الأضواء عليه من جديد، فهو ما كان يريد أن يتقاعد - كما قال- بل إنه بدأ يظهر علينا بين الحين والآخر ليطلق التصريحات ويقدم الآراء ويطلق الاحكام.. وليس في ذلك ضير، فهو مطالب بأن يقدّم استشاراته وآراءه علي ضوء المتغيرات الكبري الحاصلة أولا وعلي ضوء ما استفاده من العديد من الكتّاب والنقاد والمتابعين ثانياً، وأيضا علي ضوء التجربة طويلة الأمد في متابعة الأحداث والوقائع ثالثاً. لقد مضي الزمن وأصبح شيخاً طاعناً في السن يتطلب أن يتمتع بوقار واحترام من نوع خاص بدل أن يفجّر كل حين قنبلة إعلامية، أو فبركة صحفية، أو لعبة نارية، أو تصريحات ساخنة وكأنه يبحث عن أشياء ومعانٍ وقيم مهنية ومواقف سياسية افتقدها بفعل جملة المكاشفات التي طالت أعماله وتصريحاته الإعلامية .
قناة الجزيرة
يقال إن قناة الجزيرة الفضائية قد أدامت مفاوضاتها معه قرابة سنتين كي يصدر موافقته بعد أن عجزت طويلاً في إقناعه وأخيراً أصدر موافقته، كي يطل من خلال شاشتها في حلقات اختارها هو نفسه من أجل أن ينتقد فيها تاريخ دولة عربية أخري!
مثل هذه "التصرفات" أو حتي الإعلان عنها يمثّل خللا فاضحا في الإعلام العربي وسدنته الذين لا نجد أشباهاً لهم في كل هذا العالم الواسع.. إنه بالقدر الذي ينتقد رجال النخبة العربية العطل السياسي الذي أصاب الساسة والقادة العرب بالقدر الذي يساهم السدنة من الكتاب العرب في استباحة القيم والضلوع في تعطيل حركة التقدم والإساءة ليس لأنفسهم فحسب، بل للمجتمع قاطبة. صحيح أن الإنسان يعتز بخبراته وسجل تجاربه وسنوات ماضيه ومكانته في إثراء الحياة، ولكن بالمقابل لابد أن يأتي تثمينه من قبل الآخرين لا أن يثمن هو نفسه ويختال علي الآخرين.. ففوق كل ذي علم عليم وما أجمل الإنسان حين يتواضع كلما ازداد عمره لا أن يكابر علي الآخرين، وأن الزمن قد مر عليه وتجاوزه مسافات بعيدة جداً، مثلما الماء يفيض ويجرفه بكل ما يحمله من إرث قديم! ليس الزعماء وحدهم يصادرون حياة الناس وتفكيرهم.. وليس رجال الدين يستأصلون أي جديد تحت ما يطلقونه من فتاوي ضد البدع.. وليس جنرالات الجيش وحدهم يحملون صولجاناتهم، وهم يختالون متبخترين في الميادين.. فسدنة الكتابة العربية أنفسهم يتحملون مسئولية استئصال الحقيقة وتشويه الواقع ومصادرة حياة التاريخ والقيم وكل الاعتبارات.. باسم نجوم وعمالقة وكتّاب عظام وأساتذة كبار.. إلخ ، إن سدنة الكتابة في مجتمعاتنا لا تصغي أبداً، ولا تتأمل أبداً، ولا تتحقق أبداً، ولا تدقق أبداً.. إذ ليس لها إلا إطلاق ألسنتها ذات اليمين وذات الشمال!
استئصال الحقائق وتشويه التاريخ
عندما أقارن بين كبار كتابنا العرب وبين كبار كتاب الأمم الأخري، فإن فجوة كبيرة تفصل الاثنين بعضهما عن البعض الآخر.. فليس من السهل أبداً توزيع الأحكام وإطلاق التهم واحتكار الرأي والهيمنة علي الآخرين.. إن الآراء لا تطلق علي عواهنها إن لم تستند إلي معلومات وتوثيقات.. وليست الكتابة أو التصريحات الإعلامية من الرخص بمكان بحيث يتخيل الكاتب من عندياته أشياء وتفصيلات لا حصر لها من اللامعقول ويفرضها علي الآخرين فرضاً من دون إعطاء أي هامش من الاحتمالات!
هذا النهج لم نكن نجده في الأدبيات العربية بمثل هذه الكثافة قبل خمسين سنة، واليوم يسوء الأمر أكثر لدي العديد من كتابنا ومؤلفينا وإعلاميينا، عندما يعد الاحتمالات التي يقدمها غيره مجموعة حقائق ينشرها لكي يعتبرها الناس ملف "حقائق" يثبتونها أساساً للاعتماد عليها.. ولقد لمست أن كاتباً ثقيلاً بحجم هيكل أو من اتبع سنته وطريقته لا يكتفون بما يأخذونه من هذا وذاك علنا، بل يبخلون حتي بالإشارة إلي مصدر المعلومات التي استقوا منها أفكارهم ومادتهم!
إن النقدات التي يصرّح بها ضد هذه الدولة أو تلك، أو ضد هذا الزعيم أو ذاك لم تستند إلي حقائق دامغة، بل تعتمد علي ما يتخيله الرجل.. وليس من باب الأمانة أن يتصرّف هيكل بتواريخ معينة لرجال وزعماء وأسر سلالية حاكمة ومؤسسات وحكومات وأنظمة سياسية ويتناسي تواريخ آخرين كانوا يقفون وراء فجائع الأمة ونكباتها وهزائمها! وليس من الانصاف أن يحمّل محمد حسنين هيكل مسئولية ما تعيشه الأمة اليوم لزعماء معينين ويتناسي- عن قصد وسبق إصرار- ما فتكه زعماء آخرون وأنظمتهم الديكتاتورية في عزل الحاضر عن التقدم وممارسة القمع وكبت الحريات والانعزال عن تطور الحياة والانكفاء علي الذات، وإشاعة فضاء الدعايات والإشاعات والهوس الثوري والزعيق الإعلامي.. وخلق الفراغات السياسية في عصر الأحزمة الجيوستراتيجية!
هل كنا نحن العرب حاضرين في كل العالم؟
من أين أتيت بهذه الفرية؟ كيف كنا - نحن العرب- حاضرين في كل العالم؟ كما تقول متي حدث ذلك؟ علينا ألا نسمع صوت الكاتب يا ناس؟ علينا أن نحتكم لمعلومة المؤرخ المختص! متي كان لنا صوت مسموع في القارات الخمس؟ باسم من نتحدث يا هيكل؟ باسم العرب أم باسم مصر؟ وماذا جنينا من مؤتمر باندونج ومنظمة دول عدم الانحياز؟ ما الذي قدمته منظمة الوحدة الأفريقية؟ هل توحّد العرب عملاً بشعاراتهم الزائفة التي أطلقوها؟ أم توحّدت أفريقيا بعيد حركات التحرر العالمية؟ هل قاد العرب حركات التحرر في العالم؟ هل قاد العرب انتفاضات الطلبة في العالم؟ هل قادوا النضال ضد الامبريالية العالمية كما قادها الفيتناميون في غابات لاوس وكمبوديا؟ ألم تستخدم أراضيهم ومياههم إبان الحربين الأولي والثانية في القرن العشرين؟ ألم يكن العرب وقودا حمراء للحرب الباردة في العالم عندما تقاذفتهم كل من كتلة الشرق وكتلة الغرب؟ من صنع حاضرنا البائس يا عزيزي هيكل؟ عندما كانت الحرب الباردة علي أشدها في الخمسينيات والستينيات انتفض الضباط الأحرار علي الشرعية مستغلين مناوراتهم بين أرجل الكبار وقالوا بعدم الانحياز وقالوا بالحياد الإيجابي.. ولكن هل كانت لهم استقلالياتهم في صنع القرارات المصيرية؟ ألم تتخذ أو تؤجل قرارات مصيرية عربية حسب رغبات السفير الأمريكي أو السفير السوفيتي أو السفير البريطاني أو السفير الفرنسي؟
وأخيرا: متي نفكّر في الأسئلة التالية؟
ما الذي خرج به العرب إثر تلك الحقبة الموبوءة بالقمع والتشتت والصراعات والانقلابات وبكل عوامل القهر ضد الأحرار وضد الشرعية وضد الاستقرار وضد التطور الطبيعي للحياة؟ ما الذي جاء به الثوريون عندما قلبوا الحياة من سيرتها الطبيعية إلي حركتها الانقلابية وبدأ التكالب علي السلطة وتدخل الجيش في السياسة واغتيلت الأحزاب العريقة وأصبحت "الوطنية" شعارا بلا مضمون؟ وإذا كان مسئولون أمثال: ميتران وبلير وبريماكوف وغيرهم قد انتقدوا الزعماء العرب انتقادا مريرا، فهل كان الزعماء الذين سبقوهم في أوروبا قد احترموا العرب وأنهم لم ينتقدوا الزعماء العرب السابقين؟ هذا ما أحاول الإجابة عنه في الحلقات القادمة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.