بدء التصويت في انتخابات مجلس الشيوخ بسفارات مصر بالسعودية والكويت والأردن    انتخابات الشيوخ 2025.. توافد لافت ورسائل دعم للدولة المصرية خلال تصويت المصريين بالسعودية    توقيع بروتوكول تعاون بين الجمارك والغرفة التجارية بالقاهرة لتيسير الإجراءات الجمركية    استشهاد 23 فلسطينيا في قصف إسرائيلي متواصل على غزة    الدفاع الروسية: اعتراض وتدمير 112 طائرة مسيرة أوكرانية    مواعيد مباريات السبت 2 أغسطس 2025.. البدري ضد كهربا وافتتاح أمم إفريقيا للمحليين    مواعيد مباريات اليوم السبت 2- 8- 2025 والقنوات الناقلة    ماسكيرانو: نحلم باستمرار ميسي مع إنتر ميامي.. والقرار بيده    22 شهيدا في غزة.. بينهم 12 أثناء انتظار المساعدات    الرئيس البرازيلي: نستعد للرد على الرسوم الجمركية الأمريكية    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب شمال باكستان    مصطفى عبده يكتب: خيانة مكتملة الأركان    ذات يوم.. 02 أغسطس 1990.. اتصالات هاتفية بالرئيس مبارك والملكين فهد وحسين لإبلاغهم بمفاجأة احتلال العراق للكويت ومحاولات الاتصال بصدام حسين تفشل بحجة «التليفون بعيد عنه»    أسعار الأسماك بكفر الشيخ اليوم    الهيئة الوطنية للانتخابات: سفراء مصر بالخارج يدعمون التصويت    استقرار أسعار العملات العربية في بداية تعاملات اليوم 2 أغسطس 2025    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    تعرف على منافسات مصر بسابع أيام دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    يحيى عطية الله يعود إلى الوداد بعد موافقة سوتشي الروسي    «مياه الإسكندرية» تنهي استعداداتها لتأمين انتخابات مجلس الشيوخ    الطقس اليوم السبت 2-8-2025.. أجواء حارة ورطبة نهارًا على أغلب الأنحاء    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    أخبار مصر: مفاجأة بمنزل البلوجر أم مكة، وفاة غامضة لعم أنغام، ترامب يهدد بوتين ب"النووي"، مأساة في زفة عريس بكفر الشيخ    وفاة عم أنغام .. وشقيقه: الوفاة طبيعية ولا توجد شبهة جنائية    القاهرة الإخبارية تعرض تقريرا عن مجلس الشيوخ.. ثمرة عقود من التجربة الديمقراطية    حملة «100 يوم صحة» تقدم 26.7 مليون خدمة طبية مجانية خلال 17 يوما    جنين تم تجميده عام 1994.. ولادة أكبر طفل في العالم    أسعار السبائك الذهبية اليوم السبت 2-8-2025 بعد الارتفاع القياسي العالمي    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    "تيسلا" مطالبة ب 242 مليون دولار كتعويض عن حادث مميت    وفاة والد معتمد جمال مدرب الزمالك السابق    حروق طالت الجميع، الحالة الصحية لمصابي انفجار أسطوانة بوتاجاز داخل مطعم بسوهاج (صور)    أسعار الفراخ والبيض في أسواق وبورصة الشرقية اليوم السبت 2-8-2025    سعر الأرز الشعير والأبيض اليوم السبت 2-8-2025 في أسواق الشرقية    الأجهزة الأمنية تداهم منزل البلوجر «أم مكة» في شبرا الخيمة وتتحفظ على معدات التصوير    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    تنسيق المرحلة الثانية 2025.. قائمة الكليات المتاحة لعلمي علوم ورياضة ومؤشرات الحد الأدنى    جريمة تهز سيوة.. مقتل 4 أفراد من أسرة واحدة وإصابة ابنهم    الصفاقسي التونسي يكشف تفاصيل التعاقد مع علي معلول    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    مقتل 4 أشخاص في إطلاق نار داخل حانة بولاية مونتانا الأمريكية    تشيع جنازة عريس لحق بعروسه بعد ساعات من وفاتها بكفر الشيخ    عمرو دياب يشعل العلمين في ليلة غنائية لا تُنسى    محافظ سوهاج يقرر غلق محلين بسبب مشاجرة بعض العاملين وتعطيل حركة المواطنين    إصابة 5 عمال في مشاجرة بسوهاج لتنافس على الزبائن    محمد ممدوح عن «روكي الغلابة»: «كان نفسي اشتغل مع دنيا سمير غانم من زمان» (فيديو)    تحبي تكوني «strong independent woman» ماذا تعرفي عن معناها؟ (فيديو)    كما كشف في الجول – النجم الساحلي يعلن عودة كريستو قادما من الأهلي    أبرزها رفع المعاش واعتماد لائحة الإعانات.. قرارات الجمعية العمومية لاتحاد نقابات المهن الطبية    الشباب المصري يصدر تقريره الأول حول تصويت المصريين بالخارج في انتخابات مجلس الشيوخ    حسام موافي ينصح الشباب: مقاطعة الصديق الذي علمك التدخين حلال    منها «الذهاب بكثرة إلى الحمام ».. 6 علامات مبكرة تدل على سرطان البروستاتا يتم تجاهلها    رئيس أركان حرب القوات المسلحة يشهد فعاليات اليوم العلمى ل«الفنية العسكرية»    للرزق قوانين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا    هل أعمال الإنسان قدر أم من اختياره؟ أمين الفتوى يجيب    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مكاشفات نقدية جديدة في إشكاليات محمد حسنين هيكل
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 06 - 10 - 2009


شاهبندر الفبركة الإعلامية البقاء في حلقة مفرغة
حكيت لكم في مقدماتي عبر الحلقات الماضية قصتي مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، وقد غدت معروفة للجميع، ولا داعي لأن يلوك البعض التهم ويلقيها جزافاً، فمشروعنا هذا، فردي مستقل ونظيف عن تدخل أي كيان سياسي أو حزب أيديولوجي أو دولة أو نظام حكم.. وكما قلت: إن كل جديد أقدّمه في نقد أفكار الأستاذ هيكل وتصريحاته، إنما يصبّ أساسا في مصبّ "التفكيك" الذي أزعم أنني قد نجحت في تحديد ما أردت قوله تنظيراً وممارسة، وها نحن ذا نراقب عن كثب كتاباته وتصريحاته منذ قرابة عشر سنوات علي صدور كتابي: "تفكيك هيكل".
إذ أجده في بعض منها قد تخلّي عن أفكاره القديمة، ولكنه بقي يدور في الحلقة المفرغة نفسها وعلي المنوال ذاته الذي اختطه لنفسه سيكولوجيا وسياسياً وإعلاميا، إذ يري نفسه وحده بما يقوله من حكايات أو ما يسجله من نصوص، ولا يري أي واحد من الآخرين أبداً إلا أن يكونوا من المستمعين.. إنه يري ما ينسجه خياله فيقوله بعد أن يؤمن به إيماناً كبيراً، وينسي أنه في زمن مختلف اليوم عن الأزمان الماضية التي كانت لا تري إلا إياه، ولم يزل حتي اليوم بعيداً كل البعد عن حقائق الحياة العربية وعن الواقع العربي الذي يزدحم يوماً بعد آخر بالمشكلات والمعضلات الصعبة المعيشية والاجتماعية والتربوية.. وليس السياسية ولا شيء غير السياسة عنده، وكأن الناس لا شغل عندهم ولا مشغلة إلا ما يشغل بالهم ذاك الزمن الثوري وساعات العمل الثوري وشعارات الوحدة والاشتراكية.. الخ ،إنه عندما يتحدث، وكأنه أسطوانة تنعش من تبقّي من أبناء ذاك الجيل الذي كان ولم يزل يعيش الأوهام.. علما بأن أعداداً كبري من ذاك الجيل ندمت وهي تتأسف اليوم كيف أضاعت كل الزمن بالهوس الثوري والهتافات مع يعيش ويسقط! إن هيكل لم يعد له سوقه الذي كان يعد من أكبر تجاره، بل كان يتصدر رواقاته كونه شاهبندر كل التجارات الإعلامية والسياسية! إنه اليوم يتحدث طويلا، ويقفز هنا أو هناك من دون أن يري جذور مشاكل المنطقة ومن الذي ساهم في خلقها علي امتداد نصف قرن مضي من ساسة مضوا إلي حال سبيلهم كان مؤيداً لهم ومناصراً لسياساتهم البليدة.. إنني أعجب جدا من رجل عالي الثقافة ويعد من سدنة الصحافة العربية المعاصرة.. لم يستطع أن يغيّر من نهجه وأسلوبه مقارنة بما يحمله من متغيرات في الرؤية والتفكير .
حوار ورؤية من دون تصفية حسابات
ولا أريد أن يكون كل ما أكتبه إزاء الرجل يعده الآخرون - خصوصا من مؤيديه وأنصاره وأصدقائه- بمثابة تصفية حساب بيني وبينه، فهو- كما يبدو- باستطاعته أن يبلع الطعم من بعض الذين ينتقدونه في مصر باعتبارهم من "الإخوة المصريين" كما قال لي أحد أصدقائي من مصر الحبيبة-، ولكنه لا يستطيع البتة أن يبلع أي طعم من الآخرين غير المصريين لأسباب لا أريد أن أفهمها، وأنا أعرفها تمام المعرفة.. إذ لا أعاني أبداً من عقدة التماهي أو التباهي أبداً، إذ لدي من الإخوة والأصدقاء والأحبة المصريين من وقف إلي جانبي وقفة مشرفة لا أنساها.. ولا أريد من الإخوة العرب (والناصريين في مقدمتهم) الذين تسيطر عليهم عواطفهم السياسية والايديولوجية أن يطلقوا الاتهامات ذات الشمال وذات اليمين.. فلست طالب جاه أو مقام أو شهرة، فكلها أمتلكها، ولست إلا بناقدٍ يفكر بالنص ومقول القول، أي الخطاب، وأيضا لست إلا ذلك المؤرخ المختص الذي له رؤيته المتواضعة وقدرته علي مجابهة كل الخطل السياسي ومحاسبة كل من يتعمد تشويه تاريخ معين وكل من غطس في التناقضات ومعمياتها .
لقد قال لي أحد الأصدقاء قبل سنوات عندما نشرت "تفكيك هيكل": لماذا تنزل نفسك إلي مستوي أدني من تخصصك العلمي؟ أجبته: إنني لست في حوار مع الرجل، بل إنني ناقد لنصوصه، والنقد أثمن وأجدي من أي نص.. وعليه، فمن حق الرجل أن يسكت كي أكون فارضاً ما أكتبه من نقدات، خصوصا أنني قد طرحت أسئلة عدة لم يستطع الإجابة عنها حتي اليوم وبعد سنوات طوال، ولم تكن أسئلة تعجيزية أو فلسفية، إذ إنني أدرك أنه من أبعد الناس عن فلسفة العلم والمنهج، ولكنها أسئلة تخص مصادره ومراجعه التي لا يمكن أبداً الاطمئنان لما يذكره منها باسم (الوثائق).. علما بأن الوثائق رسمية للغاية، وليس فيها كل ما يسهب فيه من تفاصيل.. نعم، إنه لم يجب عن الأسئلة أبداً، وكان من حقه أن يقول شيئا بصددها حتي إن لم يخصني بالذكر، ولكن ليس من حق الرجل أن يجعل الآخرين يجيبون بالنيابة عنه، ويتخذون المواقف ويتبعون أسلوب القدح والذم علي ما أقول وكأننا نعيش حقبة حكم ثوري، أو يتدخلون في أمر لا يعنيهم، فالأمر سجال بيني وبينه قبل أن يطوينا الردي.
مشكلة نص ومنهج وتباين رؤية وتفكير
إن مشكلتنا ليست معه شخصياً كصحفي كبير نجلّه ونحترم ذاته، ولكن مشكلتنا مع أعماله ونصوصه وأحاديثه التي نشخّص فيها بعض أخطائه وتصريحاته وتناقضات ما يقول هنا أو ما يدعيه هناك.. والتي لا نتفق معها أبداً، كونها تأتي في أوقات معينة لحسابات تدور في عقل صاحبها.. وأنها لا تستند إلي أي مصدر، وأنها لا تناقش الرأي الآخر، فكل من له رأي مخالف، فهو مهمل عند هيكل، وما أكثر الذين سجّلوا حقائق وآراء ومعلومات تخالف ما ذهب إليه.. ناهيكم عن كون أحاديثه وأفكاره تسيء ولا تخدم الواقع المضني.. فضلا عن كونها وليدة إرث من المفبركات التي أوهت الحياة العربية علي مدي خمسين سنة مضت .
إن محمد حسنين هيكل يختار الوقت المناسب لإطلاق أثقاله الساخنة وألعابه النارية وباتجاهات مختلفة، فإما تجده يكشف عن (معلومات سرية) شخصية عن زعماء وقادة عرب بعد رحيلهم مباشرة وكأنه كان معهم، أو تجده يؤلف الكتب وينشر المقالات بعد أن تضع أي حرب أوزارها وكأنه ساهم في إضرام فتيلها أو إخماد نارها، أو أنه يمثل ويشخص أمامك سلسلة أحاديث دقيقة جداً في تواريخها وأزمانها كي يقول للعالم، هأنذا أمتلك ذاكرة لا يمكن لأي واحد من البشر أن يمتلكها.. وقد رأينا كيف جعل من نفسه مهندساً لثورة عبدالناصر عام 1952 وكأنه الرجل المسيطر علي اللواء محمد نجيب.. أو نجده يأخذ اتجاهه الآخر، بحيث يتمكن أن يطلق الانتقادات ضد دولة معينة ببرودة أعصاب، ولا ندري ما الغرض الذي يجعله ينال من هذا الكيان، أو ذاك النظام، أو تلك الدولة وهي تمر بأكثر من أزمة ! والأسباب معروفة والنتائج معروفة.
هيكل هذه الأيام
يبدو أن الرجل لم يغيّر من أسلوبه ولم يغّير من نهجه أو طريقته أو سيكولوجية نصوصه.. ولا يبدو أن الصحفي القديم محمد حسنين هيكل قد وجد منذ نهايات العام 2004 متنفساً له في قناة الجزيرة الفضائية، بعد أن كان قد أعلن تقاعده عن الكتابة والنشر.. وكان وقت ذاك قد صاحب إطلاق انسحابه عن الكتابة والنشر والإعلام طنّة ورنّة.. نعم، وقت ذاك تمنيت عليه ألا يتوقّف عن الكتابة أو يتقاعد عن مهنته القديمة قبل أن يصفّي حساباته مع ما كان قد نشره في أغلب كتبه من مغالطات وأخطاء وتجاوزات ومفبركات ويحاول أن يصحّح الأخطاء، ويصّوب التجاوزات من دون أن يرد علي منتقديه المعروفين من الساسة والمفكرين والمختصين.. ولكنه لم يفعل ذلك، وسيكون التاريخ الحكم بيننا وعلينا جميعا.
ولكن الرجل، بالرغم من صنعه الضوضاء، فقد قيل إنه أراد أن يعيد تسليط الأضواء عليه من جديد، فهو ما كان يريد أن يتقاعد - كما قال- بل إنه بدأ يظهر علينا بين الحين والآخر ليطلق التصريحات ويقدم الآراء ويطلق الاحكام.. وليس في ذلك ضير، فهو مطالب بأن يقدّم استشاراته وآراءه علي ضوء المتغيرات الكبري الحاصلة أولا وعلي ضوء ما استفاده من العديد من الكتّاب والنقاد والمتابعين ثانياً، وأيضا علي ضوء التجربة طويلة الأمد في متابعة الأحداث والوقائع ثالثاً. لقد مضي الزمن وأصبح شيخاً طاعناً في السن يتطلب أن يتمتع بوقار واحترام من نوع خاص بدل أن يفجّر كل حين قنبلة إعلامية، أو فبركة صحفية، أو لعبة نارية، أو تصريحات ساخنة وكأنه يبحث عن أشياء ومعانٍ وقيم مهنية ومواقف سياسية افتقدها بفعل جملة المكاشفات التي طالت أعماله وتصريحاته الإعلامية .
قناة الجزيرة
يقال إن قناة الجزيرة الفضائية قد أدامت مفاوضاتها معه قرابة سنتين كي يصدر موافقته بعد أن عجزت طويلاً في إقناعه وأخيراً أصدر موافقته، كي يطل من خلال شاشتها في حلقات اختارها هو نفسه من أجل أن ينتقد فيها تاريخ دولة عربية أخري!
مثل هذه "التصرفات" أو حتي الإعلان عنها يمثّل خللا فاضحا في الإعلام العربي وسدنته الذين لا نجد أشباهاً لهم في كل هذا العالم الواسع.. إنه بالقدر الذي ينتقد رجال النخبة العربية العطل السياسي الذي أصاب الساسة والقادة العرب بالقدر الذي يساهم السدنة من الكتاب العرب في استباحة القيم والضلوع في تعطيل حركة التقدم والإساءة ليس لأنفسهم فحسب، بل للمجتمع قاطبة. صحيح أن الإنسان يعتز بخبراته وسجل تجاربه وسنوات ماضيه ومكانته في إثراء الحياة، ولكن بالمقابل لابد أن يأتي تثمينه من قبل الآخرين لا أن يثمن هو نفسه ويختال علي الآخرين.. ففوق كل ذي علم عليم وما أجمل الإنسان حين يتواضع كلما ازداد عمره لا أن يكابر علي الآخرين، وأن الزمن قد مر عليه وتجاوزه مسافات بعيدة جداً، مثلما الماء يفيض ويجرفه بكل ما يحمله من إرث قديم! ليس الزعماء وحدهم يصادرون حياة الناس وتفكيرهم.. وليس رجال الدين يستأصلون أي جديد تحت ما يطلقونه من فتاوي ضد البدع.. وليس جنرالات الجيش وحدهم يحملون صولجاناتهم، وهم يختالون متبخترين في الميادين.. فسدنة الكتابة العربية أنفسهم يتحملون مسئولية استئصال الحقيقة وتشويه الواقع ومصادرة حياة التاريخ والقيم وكل الاعتبارات.. باسم نجوم وعمالقة وكتّاب عظام وأساتذة كبار.. إلخ ، إن سدنة الكتابة في مجتمعاتنا لا تصغي أبداً، ولا تتأمل أبداً، ولا تتحقق أبداً، ولا تدقق أبداً.. إذ ليس لها إلا إطلاق ألسنتها ذات اليمين وذات الشمال!
استئصال الحقائق وتشويه التاريخ
عندما أقارن بين كبار كتابنا العرب وبين كبار كتاب الأمم الأخري، فإن فجوة كبيرة تفصل الاثنين بعضهما عن البعض الآخر.. فليس من السهل أبداً توزيع الأحكام وإطلاق التهم واحتكار الرأي والهيمنة علي الآخرين.. إن الآراء لا تطلق علي عواهنها إن لم تستند إلي معلومات وتوثيقات.. وليست الكتابة أو التصريحات الإعلامية من الرخص بمكان بحيث يتخيل الكاتب من عندياته أشياء وتفصيلات لا حصر لها من اللامعقول ويفرضها علي الآخرين فرضاً من دون إعطاء أي هامش من الاحتمالات!
هذا النهج لم نكن نجده في الأدبيات العربية بمثل هذه الكثافة قبل خمسين سنة، واليوم يسوء الأمر أكثر لدي العديد من كتابنا ومؤلفينا وإعلاميينا، عندما يعد الاحتمالات التي يقدمها غيره مجموعة حقائق ينشرها لكي يعتبرها الناس ملف "حقائق" يثبتونها أساساً للاعتماد عليها.. ولقد لمست أن كاتباً ثقيلاً بحجم هيكل أو من اتبع سنته وطريقته لا يكتفون بما يأخذونه من هذا وذاك علنا، بل يبخلون حتي بالإشارة إلي مصدر المعلومات التي استقوا منها أفكارهم ومادتهم!
إن النقدات التي يصرّح بها ضد هذه الدولة أو تلك، أو ضد هذا الزعيم أو ذاك لم تستند إلي حقائق دامغة، بل تعتمد علي ما يتخيله الرجل.. وليس من باب الأمانة أن يتصرّف هيكل بتواريخ معينة لرجال وزعماء وأسر سلالية حاكمة ومؤسسات وحكومات وأنظمة سياسية ويتناسي تواريخ آخرين كانوا يقفون وراء فجائع الأمة ونكباتها وهزائمها! وليس من الانصاف أن يحمّل محمد حسنين هيكل مسئولية ما تعيشه الأمة اليوم لزعماء معينين ويتناسي- عن قصد وسبق إصرار- ما فتكه زعماء آخرون وأنظمتهم الديكتاتورية في عزل الحاضر عن التقدم وممارسة القمع وكبت الحريات والانعزال عن تطور الحياة والانكفاء علي الذات، وإشاعة فضاء الدعايات والإشاعات والهوس الثوري والزعيق الإعلامي.. وخلق الفراغات السياسية في عصر الأحزمة الجيوستراتيجية!
هل كنا نحن العرب حاضرين في كل العالم؟
من أين أتيت بهذه الفرية؟ كيف كنا - نحن العرب- حاضرين في كل العالم؟ كما تقول متي حدث ذلك؟ علينا ألا نسمع صوت الكاتب يا ناس؟ علينا أن نحتكم لمعلومة المؤرخ المختص! متي كان لنا صوت مسموع في القارات الخمس؟ باسم من نتحدث يا هيكل؟ باسم العرب أم باسم مصر؟ وماذا جنينا من مؤتمر باندونج ومنظمة دول عدم الانحياز؟ ما الذي قدمته منظمة الوحدة الأفريقية؟ هل توحّد العرب عملاً بشعاراتهم الزائفة التي أطلقوها؟ أم توحّدت أفريقيا بعيد حركات التحرر العالمية؟ هل قاد العرب حركات التحرر في العالم؟ هل قاد العرب انتفاضات الطلبة في العالم؟ هل قادوا النضال ضد الامبريالية العالمية كما قادها الفيتناميون في غابات لاوس وكمبوديا؟ ألم تستخدم أراضيهم ومياههم إبان الحربين الأولي والثانية في القرن العشرين؟ ألم يكن العرب وقودا حمراء للحرب الباردة في العالم عندما تقاذفتهم كل من كتلة الشرق وكتلة الغرب؟ من صنع حاضرنا البائس يا عزيزي هيكل؟ عندما كانت الحرب الباردة علي أشدها في الخمسينيات والستينيات انتفض الضباط الأحرار علي الشرعية مستغلين مناوراتهم بين أرجل الكبار وقالوا بعدم الانحياز وقالوا بالحياد الإيجابي.. ولكن هل كانت لهم استقلالياتهم في صنع القرارات المصيرية؟ ألم تتخذ أو تؤجل قرارات مصيرية عربية حسب رغبات السفير الأمريكي أو السفير السوفيتي أو السفير البريطاني أو السفير الفرنسي؟
وأخيرا: متي نفكّر في الأسئلة التالية؟
ما الذي خرج به العرب إثر تلك الحقبة الموبوءة بالقمع والتشتت والصراعات والانقلابات وبكل عوامل القهر ضد الأحرار وضد الشرعية وضد الاستقرار وضد التطور الطبيعي للحياة؟ ما الذي جاء به الثوريون عندما قلبوا الحياة من سيرتها الطبيعية إلي حركتها الانقلابية وبدأ التكالب علي السلطة وتدخل الجيش في السياسة واغتيلت الأحزاب العريقة وأصبحت "الوطنية" شعارا بلا مضمون؟ وإذا كان مسئولون أمثال: ميتران وبلير وبريماكوف وغيرهم قد انتقدوا الزعماء العرب انتقادا مريرا، فهل كان الزعماء الذين سبقوهم في أوروبا قد احترموا العرب وأنهم لم ينتقدوا الزعماء العرب السابقين؟ هذا ما أحاول الإجابة عنه في الحلقات القادمة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.