هل هي مشكلة أم إشكالية ؟! وماذا يكمن خلفها تالياً؟! لابد من إيضاح دلالي يقول طرابيشي في هرطقاته موضحاً الفرق الأولي بالتعريف كل مسألة يمكن الإجابة عنها بعد الدرس والتقصي بطريقة علمية أو برهانية أما الثانية فهي كل مسألة تكتنف الإجابة عنها صعوبات وتبدو قابلة لأجوبة متعددة بل متناقضة وقد تستوجب أصلاً تعليق الحكم بانتظار توفر شروط أفضل للإجابة تسهل ما كان يبدو معقداً وتحل ما كان يبدو غير قابل للحل الإشكالية بخلاف المشكلة لا تبحث عن جواب بقدر ما تعني بصياغة السؤال والتحريض علي البحث عن جواب. وفي كتابه المثقفون العرب والتراث التحليل النفسي لعصاب جماعي الذي أخضع فيه طرابيشي الخطاب التراثي في نتائج الانتلجا نسياً العربية المعاصرة إلي التحليل النفسي بعد أن قرر تمديد الخطاب العربي المعاصر علي سرير التحليل النفسي وعاني ما عاني فالفاعل في هذا الخطاب ليس ضمير الأنا المتكلم ولكن واو الجماعة وهو ما أرجعه للرضدة التي حدثت لنا في العام 67 وتسببت في توليد سلاسل من ردود الأفعال المتطابقة أو الموحدة بحيث بدأ المجموع وكأنه يسلك سلوك الفرد الواحد ولقد استعان طرابيشي في هذه الرحلة النقدية الشاقة بفرويد أبوالتحليل النفسي لكن انفتح كذلك علي التأويل اليونغي وتأويلات جيرار ماندك من رواد المدرسة ما بعد الفرويدية. والخطاب الذي أخضعه طرابيشي للتحليل النفسي ليس هو خطاب مرحلة النهضة 1798-1939 وليس هو خطاب ما بعد الحرب العالمية الثانية 1939 وحتي 1966 لكن هو الخطاب الذي بدأ ينتج نفسه ويعيد إنتاجها منذ هزيمة العام 67 والعصاب هو عجز الإنسان عن الإفلات من قبضة الماضي ومن عبء تاريخه حسب فليب رييف والعصابي حسب فرويد هو الذي يشيع عن الواقع أي ينصرف عنه لأنه يجده لا يطاق بتمامه أو في بعض أجزائه وكما قال الأفغاني العربي.. يعجب بماضيه وأسلافه وهو أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله. هذا وقد فرق طرابيشي بين الصدمة والرضة الصدمة التي حدثت عند قدوم الحملة الفرنسية والرضة التي حدثت نتيجة هزيمة 67 فالأولي جعلتنا ننزعج وننتفض ونحاول التحرك للأمام في إرادة تبغي المعافاة وعزيمة تنوي التقدم دستور ومواطنة وتعليم مدني فالصدمة تكون لجسم ساكن تحركه وهي قابلة للهضم والتمثيل وإعادة التوظيف حيث تتحول إلي قوة دفع وحفز من نومة الانحطاط أو تفعل فعل المس الكهربي الموقظ للقلب والعقل من الغيبوبة أو تكون كالمهماز الدافع للحركة والانتفاض وهي ليست مجرد إيقاظ من نوم الغفلة بل استحضار أيضا علي صعيد الوعي لضرورة التغيير. أما الثانية الرضة فهي حسب ساندورفيرنزي لا تحدث إلا إذا كان الأمر غير متوقع وغير منتظر مسبوقة بشعور عارم بالثقة في الذات ومغالاة في تقييم الذات وامتلاء الذات بالوهم المرفوع إلي درجة اليقين وهي تفتح للهرب من الواقع بدلاً من مواجهته بحيث يكون المفعول الوظيفي لها هو التثبيت بدلاً من التقدم واللجم بدلاً من التحريك وبدلاً من التكيف والمحاكاة تنقلب إلي آلية دفاع مرضي علي النمط النعامي أو القوقعي دفن الرءوس في الرمال أو الإنغلاق. كما أنها تتسبب في إضراب عن النمو وانسحاب من سيرورة التطور وإلغاء الذاتية وإنتاج الخطابات المجردة واستقالة من الفعل التاريخي لتكون إشكاليتنا الحقيقة هي إشكالية الوثبة المطلوبة كيف تكون ؟! ونحو أي طريق ؟! هل تكون إلي ماض لن يعود ؟! هل تكون إلي ماض متخيل زيفناه عبر صور أسطورية لا علاقة لها بالواقع منزوعة الصلة به ؟! أم تكون الوثبة بإتجاه المقاومة والمعافاة والتقدم نحو المستقبل والأخذ بأسباب الحضارة والرقي والتحديث. هل نحاول ركوب القطار أم نتركه وشأنه أم نركب الجمل والحمار ؟! إن إحباطات الحاضر قد تدفع الإنسان إلي النكوص نحو الماضي واستكمال تدمير ذاته وقد تدفع في اتجاه المقاومة والمعافاة والتقدم نحو المستقبل ولكن يكمن ما هو وراء تلك الإشكالية التي نحن بصددها الآن في مصر ألا وهي الكارثة كارثة حركتنا الدائرة التي تعود بنا بعد الجهد إلي نفس النقطة !! يقول أركون: أن العرب والمسلمين يعانون من قطيعتين إحداهما مع تراثهم الإبداعي في العصر الكلاسيكي والثانية مع كشوف الحداثة الأوروبية ويفسر نجاح الحضارة الغربية ورسوخها بعامل الاستمرارية التصاعدية أما في المجال العربي الإسلامي فالمسألة متقطعة لحظات لحظة هارون لحظة المأمون لحظة عضد الدولة وطرابيشي يؤكد أننا إنتكسنا من النهضة إلي الردة من الخطاب الوطني المؤسس للتعايش إلي الخطاب الطائفي الممهد للصراع والفتنة من المشروع الوطني لبناء الدولة الحديثة إلي محاولات هدم ما تبقي منها والتيه في الصحراء بدلاً من محاولة إصلاحها بينما يحاول صاغية مجدداً أن يصرخ فينا رافعاً شعار للدولة در بينما يؤكد داريوش شايغان أنه طلما لم يشعر الناس بضرورة الحداثة فإنها تبقي دائما شكلاً معادياً مفروضاً عليهم. وأخيراً يقول د.فؤاد زكريا: إنه لأمر يدعو إلي الأسي العميق أن يجد المثقف العربي نفسه مضطرا إلي أن يخوض معركة كاد المفكرون العرب أن يحسموها منذ أكثر من مائة عام لصالح العقل والتقدم فهل هناك دليل علي انتصار خصوم العقل أبلغ من نجاحهم في العودة بمستوي الجدل الثقافي أكثر من قرن من الزمان بالنسبة للعرب وخمسة قرون بالنسبة للمجتمعات المتقدمة.