كلما أمسكت بقلمي أجدني مدفوعا للكتابة عن التصوف .. وكم من مرة قاومت ذلك الشعور غير أنه يعاودني في كل مرة، ذلك لأن قناعتي الشخصية أننا بحاجة ماسة إليه في الدنيا وبلا شك للنجاة في الآخرة.. ومما يزيد من رغبتي التي لا تقاوم في الكتابة عن هذا العلم، انصراف أكثر الناس عن حقيقته، فالمنتسبون إليه اكتفي أكثرهم منه بالرسوم والهيئات والتناقل لكلام أهل الطريق، وقصرت هممهم عن خوض بحار حقائق هذه المعاني وعن سلوك الطريق الموصل لتلك المقامات والحقائق، بل في كثير من الأحوال انحرفوا بالطريق عن مساره فأساءوا إلي المنهج إذ هناك من يترصد للتصوف وأهله، فأعطاهم الجاهلون من أهل الطريق والمنحرفون عن مساره فيه الذريعة لمواصلة هجومهم وبث سمومهم في الحديث عن الصوفية.. وأكثر الناس شغلتهم دنياهم وتسلطت عليهم بزينتها فاستغرقوا فيها وعاشوا من أجلها وزين لهم الشيطان سوء عملهم فمنهم من غفل عن الآخرة بالكلية، ومنهم من اكتفي من الدين بأعمال الظاهر والعبادات البدنية دون أن يلتفت إلي هذا القلب الذي هو موضع نظر الحق وغفل عن تحقيق معني قول الحق: (يوْمَ لاَ ينفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) ألاّ مَنْ أَتَي اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) سورة: الشعراء. ولما كان (الحكم علي الشيء فرع عن تصوره)، فقد صار الحكم علي التصوف الآن في عقول كثير من الناس مشوها وذلك لتشوه التصور لهذا العلم في عقولهم، بل لم يعلموا من الأصل أن هذا علم بل ظنوه وظنوا أهله فرقا من (الدراويش) الجهال، و ظن غيرهم أن التصوف هو زيارة قبور الصالحين والتوسل بهم في حين أن هذه المسائل من مسائل الفقه ليست من مسائل التصوف أصلا.. ولذا فقد أردت أن أذكر مباديء هذا العلم كما أورده أهله في كتبهم لعل من يقرأ هذا الكلام يتعب نفسه في محاولة البحث عن الحقيقة في أمر من أعظم الأمور بل هو أعظمها علي الإطلاق وهو أمر الآخرة. ومباديء كل فن قد جمعت في الأبيات التالية:- إن مباديء كل فن عشرة الحد والموضوع ثم الثمرة فضله و نسبته والواضع الاسم الاستمداد حكم الشارع مسائل والبعض بالبعض اكتفي ومن دري الجميع حاز الشرفا وسوف نذكر بعض هذه المباديء محاولين التعرف علي ماهية هذا العلم علما بأننا نعلم أن هذا العلم لا تدرك ثمرته بالنقل أو الحفظ والمذاكرة، بل هو علم يدرك ثماره بالسير إلي الله والمجاهدة، (وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِينّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) سورة: العنكبوت - الآية: 69 أما عن حد هذا العلم فقد حد التصوف كما يقول الشيخ زروق بوجوده تبلغ نحو الألفين ترجع كلها لصدق التوجه إلي الله تعالي .. وهذا يؤيد ما ذكرناه من أن هذا الأمر يتوقف علي ذوق السالك أثناء رحلته الروحية وعلي المرتبة التي وصلها فوصف التصوف وهو قائم في هذه المرتبة. غير أننا نذكر بعض تعريفاته، فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله: ( التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق و تعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية).. وقال ابن عجيبة رحمه الله: (التصوف: هو علم يعرف به كيفيه السلوك إلي حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة ونفهم من ذلك أن الأصل في هذا المسلك هو العمل علي تصفية القلب من الكدر والوصول إلي صفاء المعاملة من الله بالعلم و العمل والإخلاص وقطع المسافات إليه سبحانه قائما بالشريعة و سالكا للطريقة وواصلا للحقيقة.. فالشريعة أن نعبده، و الطريقة أن تقصده والحقيقة أن تعرفه.. ولا يمنعنا من ذلك جهل جاهل أو إنكار منكر ولله در صاحب (كشف الظنون) العلامة حاجي خليفة إذ يقول: علم التصوف علم ليس يعرفه إلا أخو فطنة بالحق معروف وليس يعرفه من ليس يشهده وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف أما موضوعه، أي موضوع علم التصوف فهو الذات العلية، بمعني طلب معرفة الحق فهو القائل سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيعْبُدُونِ) سورة: الذاريات - الآية: 56، قال ابن عباس أي ليعرفون.. ومعرفة الحق علي نوعين، إما بالدليل والبرهان كما في علم التوحيد، وذلك بإعمال العقل واستخدام النقل إذ الصيغة تدل علي الصانع وهذه المعرفة تكون للطالبين. أما النوع الثاني من المعرفة فهي بالشهود وتجلي الحقائق في القلوب وهو مقام الإحسان الذي ذكره النبي صلي الله عليه وآله وسلم لسيدنا جبريل فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهذه المعرفة للواصلين ولذا يقال لهم العارفون.. وهؤلاء هم الذين وجدوا الحلاوة في إيمانهم و رفعوا إلي مراتب العز بالقرب من ربهم، (أَلآ إِنّ أَوْلِيآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يحْزَنُونَ) سورة: يونس - الآية: 62 وللحديث بقية.