تستحق ساعة الإفطار أن تكون موضوعا للكتابة، فهي الساعة التي تبدأ الدنيا فيها في الفراغ من الناس وتتسع الشوارع والميادين فيمكن لك أن تنظر فيها حولك فتري ما لم تكن تري. إذا كنت في ميدان سليمان فسيغمرك الاتساع وتتأمل العمارات القديمة الأوروبية الطراز التي تمتد بك في شارع طلعت حرب، وستندهش أن في مصر عمارة من هذا النوع لم تفطن إليها من قبل وطبعا يختلف الامر اذا كنت في شارع العشرين بفيصل لأنه مهما خلا من الناس سيظل مزدحما بما تركوه فيه من حركة وأصوات وهرج ومرج وغير ذلك. علي أن ذلك ليس هو الذي أريد أن أتكلم فيه لأنه الآن حتي في ميدان سليمان ستجد سيارات تندفع بشدة ليلحق اصحابها بالإفطار، أما إذا كنت في شارع الهرم فستعجز عن القيادة بعقل وستجد أن الزحام أكثر امنا من هذه السرعات الفائقة لمن تأخروا ويصممون علي الإفطار في الموعد وفي البيت، أما اذا كنت علي المحور أو الطريق الدائري فالله ينجيك ولا يحدث معك ما حدث مع ضابط الشرطة الكبير الذي للأسف دهسه أوتوبيس مجنون يريد سائقه أن يلحق بالإفطار. سيارات النقل والمقطورات تتجاوز شأنها شأن الأوتوبيسات والميكروباصات والملاكي المائة كيلو متر في الساعة. ساعة الإفطار شغلت من روحي زمنا ووقتا وألما حين تركت الاسكندرية إلي القاهرة في السبعينيات من القرن الماضي وكنت أسكن في حدائق القبة احيانا وفي دير الملاك احيانا أخري قريبا من عملي ذلك الوقت في قصر ثقافة الريحاني. كنت أعزب ولم أتوقع أبدًا أن يأتي رمضان فأجد نفسي وحدي اتناول افطاري . ولم يكن رمضان سهلا علي هذا النحو، فكنت قبل الاذان بدقائق اترك البيت وانزل إلي شارع الملك أو شارع مصر والسودان الذي لم أستطع أن احفظ له اسما آخر ولم تكن الدنيا زحاما علي ما هي عليه الآن ولا اجد طبعا سيارات مسرعة بجنون، لقد وصل الجميع إلي بيوتهم بسلام وأمشي وحدي حزينا كأنني فقدت كل شيء حتي استقر في أقرب مقهي بعد أن اكون اشتريت ما افطر به واجلس اتناول افطاري وليس في المقهي غير الجرسونات الذين يتناولون طعامهم أيضا في صمت. كثيرا ما طلبت منهم أن يشتركوا معي في الاكل لكنهم قليلا ما وافقوا. وكان التليفزيون أمامنا انشغل أنا به أكثر منهم لا لشيء إلا لأدرك أن الدنيا واسعة وليست علي ما اشعر. كثيرا ما سألت نفسي: لماذا لا يشتركون إلا قليلا معي في الأكل وأدركت أنه دائما كان في وجهي مسحة حزن في عيني دموع تكاد تقفز ليس لانني غريب في القاهرة لكن لاني لم افهم ابدا أن الإنسان يمكن أن يمضي ساعة الإفطار وحيدا دون أن تقدم له أمه الأكل ودون أن يسمع اباه يتمتم بالدعاء ودون أن يسمع الاثنين معا يطلبان البركة في أولادهما وفي الرزق الحلال ويكون الصمت في الدنيا في هذه الحالة أعظم انواع الخشوع. كتبت عن هذه الساعة أكثر من مرة في بعض قصصي وأنا أعرف أن ما اكتب عنه ينجلي عن روحي لكن ابدا لم ينجل عن روحي ذلك الألم ساعة الإفطار وحيدا حتي بعد أن صارت لي عائلة وابناء، كل ما في الأمر أن الالم صار شجنا. ساعة الإفطار يدرك فيها الإنسان أن العالم أكبر منه وأنه لا قيمة لهذه الحياة إلا بين الناس وبين من تحب بالذات وأنه من نعم الله أن الإنسان لا يمضي عمره وحيدًا وأن الطريق إلي الله قريب جدا وأن الدعاء سيصل إليه. هل يفرغ الكون من كل هذا الضجيج إلا ليتسع الطريق إلي الدعاء الطيب؟ لقد احتلت ساعة الإفطار مساحة كبيرة من روايتي "لا احد ينام في الإسكندرية" فأبطال الرواية مسلمين واقباطًا يعيشون معا في بيت واحد تحت نيران الحرب العالمية الثانية ويتبادلون الطعام وهم إن لم يفطروا معا يلتقون بعد الإفطار في المقهي للرجال وفي البيت للنساء وتتبادل النساء الحلوي التي تصنعها المسلمات والقبطيات، والله العظيم كان هذا يحدث قديما ودائما ويسهرون بعد ذلك علي الإذاعة التي كانت هي المتوافرة ذلك الوقت أما في الصحراء فكان مجد الدين ودميان: يأكلان معا ولما سأل مجد الدين دميان: لماذا لا تأكل طوال النهار حتي تفطر معي؟ قال دميان وهل أتركك تأكل وحيدا في هذه الصحراء؟ ولقد رأيت هذا المشهد بنفسي كثيرا جدا حتي في الفترة التي سكنت فيها في حدائق القبة في السبعينيات كانت الشقة ملك سيدة قبطية مجاورة لنا فكانت كثيرا ما ترسل إلينا نحن المسلمين طعام الإفطار مما تأكله وكان جميلا جدا. أين ذهبت هذه الأيام؟ لكن من القصص التي كتبتها ولا أنساها قصة فتاتين فقيرتين ذهبتا لاقتراض مبلغ بسيط من عمهما الذي لم يعطهما شيئا وفي عودتهما إلي البيت داهمهما مدفع الإفطار فجلستا ورسمت الكبري علي الارض دائرة واسعة وقالت لاختها هذه طبلية ثم رسمت عليها دوائر صغيرة وقالت لها هذه أطباق بها ارز ولحم وخضار وكل شيء كلي، وراحتا تأكلان من الخيال حتي شبعتا. تري كم هم الذين يرسمون هذه الموائد اليوم؟ هل أحصاهم احد؟ هل نعرفهم علي اليقين؟ رغم أنه هناك الكثير جدا من موائد الرحمن؟