قبل أن يعرف الإنسان اللغة كان محاطا بالنغمات والأصوات فقط، تتسلل إلي سمعه أصوات الطيور الجميلة فتشعره بالنشوة، أو تدفعه صيحات الطيور الجارحة والحيوانات المتوحشة إلي الإحساس بالفزع. وفي محاولته لتقليدها يبدأ في اكتشاف إمكانيات حنجرته وقدرتها علي إخراج نفس الأصوات والنغمات، هو أيضا يستطيع التغريد كالطيور عند إحساسه بالانسجام كما يستطيع أن يزأر كالأسود عند شعوره بالغضب، ثم ينتقل إلي خطوة أخري أكثر تعقيدا وهي تحويل تلك النغمات إلي كلمات، وفي طريقه إلي ذلك كان لابد أن يكتشف أهم ما يتسم به التفكير الصحيح وهو عنصر الاقتصاد (economy) كيف يصل إلي هدفه بأقل عدد من الكلمات، نفس العنصر فيما بعد سيكون العنصر الحاسم في الشعر والإبداع الفني والعمل السياسي بل عند ربة البيت. هناك معان متشابهة عليه أن يصنع جذرا لها لينحت منه أكبر قدر من الكلمات. هنا تكمن عبقرية الكلمات في أي لغة وخصوصا في اللغات القديمة ومنها اللغة العربية. أريد منك العودة لعنوان المقال ليس لقراءة كلماته بل للاستماع إليها واستعادة نغماتها، لماذا اختار العقل الجمعي البدائي أن تكون هذه الكلمات البعيدة عن بعضها البعض في معانيها، مستمدة من جذر واحد وكأنه ينبه إلي أنهم أفراد في قبيلة واحدة ولهم نفس ملامحها؟ سأتناول واقعة واحدة قريبة لعلها تمدنا بالإجابة، الشيخ الدكتور عبد اللطيف مرسي قائد تنظيم ثوري جهادي في رفح الفلسطينية، بعد أن أعلن إمارته الإسلامية حاصرت قوات حماس جامع ابن تيمية الذي يعمل إماما له، وعندما اشتد الحصار تسلل من الجامع عن طريق نفق يؤدي إلي بيته ولا أحد يعرف هل هو جزء من شبكة أنفاق أم لا. عندما تبني جامعا في العصر الحديث وتحرص علي وجود نفق تحته للهرب من خلاله في ظرف ما فمعني ذلك أنك لم تبنه كدار للعبادة بل كموقع حربي. ومعناه أيضا إنك مازلت تعيش بأفكار العصور الوسطي عندما كان من الطبيعي أن تنشئ أنفاقا وسراديب تحت القصر والقلاع. فكّر معي.. هذه هي اللقطة التي دفعتني إلي التفكير في تلك الرابطة أو ال(link) بلغة الكمبيوتر هذه الأيام، أليس معني ذلك أن النفاق يحتم وجود الأنفاق؟ نعم.. كل منافق لابد له من أنفاق مختبئة تحت سلوكه وأفكاره وكلماته وما تراه منه هو ذلك الجزء الظاهر فوق الأرض فقط. نأتي لكلمة أخري ظننت في البداية أنها غريبة، كلمة نفوق التي نصف بها موت الحيوان، الواقع أن الإنسان اكتشف منذ وقت طويل أنه أجل وأعظم شأنا من الحيوان لذلك كان من الصعب عليه أن يشاركه الحيوان في صفة أراد أن يحتفظ بها لنفسه، وهي الموت.. هو صاحب روح سترتفع إلي السماء أما الحيوان هكذا تصور العقل البدائي فسينزل أسفل سافلين، لذلك نحت الكلمة من نفس الجذر بعد أن حولها إلي فعل نَ فَِ قَ وهي نفس الكلمة التي اختارها اسما للنفق تحت الأرض، كما تري كلها كلمات ذات معان كريهة أو علي الأقل تبعث علي الضيق. كلمتان فقط حيرتاني، إنفاق ونفقة، لماذا اشتقهما العقل من ذلك الجذر الكريه؟ لا أحد يحب الإنفاق، أما النفقة فلاشك أن دفعها يشعر الإنسان بالضيق الشديد، هو اختيار صحيح كما تري. الكلمات بحد ذاتها صادقة بمعني أنها تعبر عن واقع خارج الإنسان أو نابع من داخله، أما اللغة فهي ليست في كل الأحوال صادقة. وبكلمة (تعبر) أقصد أنها تنطبق تمام المطابقة علي المعني الذي تقصده. أما اللغة فبالرغم من أنها مصنوعة من نسيج الكلمات غير أنها مصبوغة بألوان النفس، بل ربما استخدمها بعض الناس لإخفاء حقيقة ما يفكرون فيه لأسباب ربما كانت داخلية أو لدوافع خارجية. ربما تخفي أنت حقيقة ما تفكر فيه لأسباب كامنة في نفسك وربما تخفيه لأسباب كامنة في البيئة المحيطة تشعرك بالخوف من إعلانه. الكلمة المفردة في حد ذاتها من المستحيل أن تكون كاذبة، لأنها في الأساس احتياج حقيقي للبشر صنعوه بأنفسهم، فعندما أقول لك كلمة شريعة علي سبيل المثال فهناك شريعة بالفعل، أما عندما أضعها في جملة مفترض إنها مفيدة مثل سأحرمك من سماع الموسيقي لأنها حرام، وأفرض عليك الزي الذي ترتديه والسلوك الذي تتبعه والأعمال الفنية التي تراها والكتب التي تقرأها تطبيقا للشريعة، سأفجر الأفراح، وأحرق محلات الفيديو وأمنعك من ارتداء المايوه علي البحر بعد أن تقول لي ذلك، عندها سأبدأ التفتيش في كلماتك بحثا عن أنفاق تستخدمها لإخفاء حقيقة ما تريده، فدرس التاريخ يقول إن ما يطلبه المتطرف ويعلنه ليس هو ما يريده في حقيقة الأمر. أنت تريد القوة، تريد الاستمتاع بالتحكم في حياة البشر وليس في كل ما تطلبه ما له صلة بالشريعة أو بالدين أساسا.. أليس من الوارد أنك صاحب نفس أمارة بالسوء؟