قبل عامين من وفاته، أى فى سن الرابعة والثمانين من عمره، شعر المفكر الدكتور حسن حنفى (1935-2021) بالانزعاج الشديد من مماطلة دور النشر معه، وتباطؤهم فى دفع الحقوق المالية لمؤلفاته بشكل جزئى أو بشكل كامل، إلى جانب تعاقب عدد من العاملين لديه بالمنزل كمساعدين أو سكرتارية، للرد على المراسلات، وإعداد أوراق المؤتمرات، وكتابة الفصول والأبواب للمؤلفات. لم يتصفوا بالأمانة بل وصل الأمر إلى حد «الاحتيال والنصب» على المفكر الكبير. واحدة من هؤلاء الذين عملوا فى مساعدة «حنفى»، ووفقًا لما يذكره فى سيرته الذاتية «ذكريات»، كانت تتظاهر بالتدين، وبأشكاله وعباراته النمطية مثل الصلاة والسلام على الرسول، وصفها «حنفى» أنها «تدعى الإسلام» وذلك بعدما اقترضت منه مبلغًا من المال لتعمل به، ثم استولت على حاسوبه الشخصى، ولم يرَها بعد ذلك. ولم تكن هى الوحيدة، بل تعاقب عليه كثيرون ذكر منهم قرابة الخمسة أشخاص نصبوا عليه. لم يقل «حنفى»: إن الفتاة «مدعية التدين» بل وصفها ب«مدعية الإسلام» ما يثير العديد من الأسئلة، مثل: لماذا بالغت الفتاة فى إظهار تدينها وتعلقها بعبارات الإسلام النمطية؟ هل شعرت أنها أمام شخصية لها ميولها الإسلامية، وأنها تحاسب الناس على المظهر، كما الإسلاميين، فاضطرت لأداء مثل هذا الدور لتسهيل مهمتها الاحتيالية؟ فى الحقيقة، نحن لن نستطيع الوصول إلى ما دار فى ذهن الفتاة التى اقترضت المال ولم تعد، ولكن: هل نحن أمام شخصية المفكر الذى تشير كلمته إلى الاصطفاف بجوار الإسلاميين؟ إن تصرف الفتاة لم يدع المفكر للبحث فى دوافعها والسؤال عن ظروفها، الشىء الوحيد الذى قام به هو إخراجها من الإسلام، ووصفها بالادعاء، ما يُحيلنا إلى المواقف التكفيرية للإسلاميين، والتى عاشها المصريون منذ تولى الجماعة الإرهابية حكم مصر، وحتى بعد سقوطها. يكتشف القارئ الصبور أن وصف الفتاة ب«مدعية الإسلام» شيئًا ضئيلًا إذا ما قورن بأوصافه المخزية وكلماته التشككية التى يطلقها ويصف بها «الجيش المصرى» وثورة الثلاثين من يونيو، وإذا ما قورن بمدحه لجماعة تكفيرية مثل الإخوان بوصفها حزبًا مدنيًا يحترم الدستور، والتهوين من الأخطاء التى أشعلت ثورة ضدها. ولا يدع «حنفى» الفرصة لأحد كى يتحدث عن موقفه من فترة حكم الجماعة لمصر، ولا عن الثورة التى أطاحت بهم، ولا عن فترة حكم الرئيس السيسى، لذا يقوم هو بسرد موقفه فى سيرته الذاتية التى صدرت فى العام 2019 بعنوان «ذكريات». فماذا يقول الدكتور حنفى عن مثل هذه الفترات المهمة فى تاريخ الوطن؟ يؤكد «حنفى» أن غليان الشعب أدى لانفجار الثورة المصرية فى يناير العام 2011، ثم أتى الانتخاب الشعبى الحر المباشر بجماعة الإخوان فى البرلمان وعلى رأس السلطة، ويصف «حنفى» أخطاء الجماعة التى تمثلت فى أنهم مدوا أيديهم إلى الخارج قبل أن يمدوها إلى الداخل (المركز)، وبدأوا فى المغالبة لا المشاركة، ومضوا فى أخونة الدولة، لكنه فى النهاية لا يرى مبررًا للثورة عليهم، لأن الأخونة سيفعله أى حزب يصل للسلطة بدلا منهم، كما أنه لم ترتفع الأسعار ولم يُسجن أحد، ومع ذلك تجمعت القوى المناهضة للإخوان فى ثورة مضادة ساندها الجيش وتولى الحكم فى 3 يوليو، بحسب ما يذكر «حنفى» متناسيًا أن الحكم تولاه الرئيس السابق المستشار عدلى منصور رئيس المحكمة الدستورية العليا بحكم منصبه. يقف المفكر حائرًا، ويتساءل: هل ما حدث فى 30 يونيو انقلاب أم ثورة مضادة؟ فهو فى الحالتين لا يحسن الظن بما حدث من الشعب والجيش تجاه الإخوان، ويتعامل معها كأنها مؤامرة، أطاحت بجماعة مدنية تحترم الدستور، وتصنع تآلفًا سياسيًا مع بقية التيارات لحل مشكلات الشعب، حيث يقع «حنفى» فى التناقض الشديد كعادته، فهو يؤمن بأن الجماعة مدنية وقادرة على المشاركة فى الحكومات، فى حين أنه وصف حكمها بأنه كان «مغالبة وليس مشاركة». ينتقل الدكتور حنفى إلى فترة حكم الرئيس السيسى، ويراها أنها مرحلة «عسكرة الدولة» وذلك لأن الجيش يتدخل فى المشروعات التنموية مثل: شبكات الطرق وبناء المساكن والاستزراع السمكى متجاهلًا أن الجيوش فى العالم تشارك وطنها البناء والتعمير فى فترات السلام يعتقد «حنفى» أن كل هذه الأمور التى يتحدث عنها، سببت غليانًا جديدًا فى نفوس المصريين ما يشير إلى قرب انفجارهم بثورة جياع ضخمة، ويتساءل: «إن الحطب جاف، فأين الشرارة؟» ويقصد شرارة الثورة، ويعود فيؤكد أن القدر يغلى دون أن يتصاعد البخار، والضجر الموجود فى القلب لم ينفجر بعد، موضحًا أنه من جيل ينهى حياته الآن بما سماه «القهر السياسى» مؤكدا أنه ينتظر ثورة يقودها المفكرون الأحرار. وأعتقد أن مواقف «حنفى» تبدو مريبة للغاية ومخيفة، لأننا الآن نعثر على مثل هذه الأفكار عند دارس الفلسفة الغربية والألمانية تحديدًا والتى يظنها البعض بعيدة كل البعد عن أن تنتج مثل هذا المفكر الذى يحلو للبعض أن يسميه ب«اليسار الإسلامى»، والذى يصطف بمواقفه وكتاباته مع الجماعات التى تعانى منها المنطقة العربية، وهو ما يشير إلى استراتيجية الجماعة فى التغلغل والاختراق لأبعد النقاط والوصول لأماكن غير متوقعة. لم تكن مواقف «حنفى» طائشة أو عابرة، فالاتجاه الفكرى لديه يكشف لنا مجموعة من المفاجآت أيضًا، ففى كتابه «عرب هذا الزمان» يرى «حنفى» أن استخدام الدين فى الصراع السياسى الدائر بين الدولة والعلمانيين والإسلاميين يصل إلى نتيجة واحدة وهى تشويه الإسلام وتسليمه لأعدائه لصالح الصراع السياسى. ومن هذه الرؤية يبدو أن «حنفى» يريد أن ينجو بالدين بعيدًا عن تلاعبات السياسية لأنها تفسده، لكنه يصنع مناورة لطيفة بحيث يمرر الكرة مرة أخرى إلى الإسلاميين وإلى الجماعات كى يتابعوا اللعب بالدين، الأمر الذى انتقده منذ قليل. ففى الفقرة التالية لرؤيته هذه، يوضح أن الأصلح للجميع أن يظل الإسلام رافدًا رئيسيًا فى ثقافتنا السياسية، كى يتمكن من الدفاع عن مصالح الأمة، والعمل على استمرارها فى التاريخ، والدخول لتحديات العصر، وتحرير الأراضى المحتلة، وتحرير المواطن من القهر السياسى والاجتماعى تحقيقًا لشعار «لا إله إلا الله». وسؤالنا: هل يختلف موقفه هذا عن بقية الجماعات التى ترى فى الإسلام الخلاص، تزج به فى اللعبة السياسية، وتعده السبب الوحيد فى الوصول إلى قمة الحضارة والنهوض، والقدرة على تجاوز هموم القضايا الراهنة؟ الموقف الذى ذكره إجمالًا فى «عرب هذا الزمان» ذكره بالتفصيل فى كتاب «دراسات فلسفية ج1» الذى صدر قبل كتاب «عرب...» بعدة سنوات، مشددًا فيه على أن القيم الإسلامية ليست تصورات فلسفية نظرية يقتنع بها الفرد فقط، بل هى «إعداد ذهنى للإنسان لمواجهة تحديات عصره ومشكلات جيله، يُمُده بطاقة وقدرة، ويُحدد له خططه وغاياته»، فالإسلام عند «حنفى» يجهز أتباعه لمواجهة تحديات العصر ويحدد لهم الخطط والغايات، وفى ظنى هو تصور شديد القرب من تصورات الجماعات الإسلامية. ويفصِّل «حنفى» ست أفكار يراها ضرورية تعزز من دور الدين السياسى، وهى: الإسلام يعمل على تحرير الأرض من العدو. الدفاع عن الحريات فى مواجهة القهر. العدالة الاجتماعية فى مواجهة سوء توزيع الثروة. التنمية الشاملة فى مواجهة التخلف الحضارى. إثبات الهوية ضد الاغتراب. توحيد الأمة فى مواجهة التجزئة. يجر «حنفى» الدين إلى الساحة السياسية بوصفه «رافدًا أساسيًا لثقافتنا السياسية»، فهل هذه الصياغة التى يقدم بها الإسلام ماهى إلا إعادة لأفكار الإسلاميين فى صورة مقالات وأبحاث أكاديمية؟ أو بطريقة أخرى: هل هذا الموقف هو الشكل الأكاديمى لفكر الجماعة؟ فى الفقرة التالية يجدر بنا أن نطالع رأى الفيلسوف الدكتور فؤاد زكريا ليقدم لنا إجابة حول علاقة «حنفى» بجماعة الإخوان، وهو ما نجده عنده فى دراسة بعنوان «مستقبل الأصولية الإسلامية» ضمن كتابه «الحقيقة والوهم». يقول «زكريا» إن سلسلة مقالات حسن حنفى التى كتبها فى جريدة الوطن الكويتية العام 1982 تحت عنوان «الحركة الإسلامية المعاصرة» والتى امتدح فيها الإخوان مديحًا وصل لدرجة الشعر، «وقع فى عدد لا يستهان به من الأخطاء المنهجية والتاريخية» إلى جانب احتشادها بالأحكام المتناقضة، وقد بدأ معالجته لموضوع الإخوان بالربط بين حسن البنا وبين الحركة الوطنية التحررية متجاهلًا «وجود اتصالات خفية بين جماعة الإخوان فى بدايتها على الأقل وبين السفارة البريطانية»، بل وصل به الأمر أن جعل من الجماعة العدو الرئيس للاستعمار فى المنطقة، ثم الادعاء أن انتخابات اتحادات الطلاب تحوذها الإخوان بنسبة 95% رغم أن وثائق تلك الفترة تؤكد عجز الإخوان تمامًا قبل الثورة عن السيطرة على اتحادات الطلبة، كما يصدر أحكامًا شديدة المبالغة كقوله: لا يوجد زعيم وطنى إلا واتصل بالجماعة. وهذا إذا انطبق على الضباط الأحرار وحسن حنفى فهو قطعًا لا ينطبق على القيادات الوفدية واليسارية، بحسب دراسة الدكتور فؤاد زكريا. ويبدو أن الدكتور حنفى لم يكن مشروعه مقتصرًا على أسئلة التراث والتجديد، ومحاولة إعادة بناء العلوم النقلية الخمسة «القرآن، الحديث، التفسير، السيرة، الفقه» وتحويلها إلى علوم عقلية فقط. بل كان يسعى لعدم سقوط الجماعة، ثم لما سقطت يلوم العمر والزمن أن ينتهى به فى «القهر السياسى» قبل أن تقوم ثورة مجددًا.. وللأسف فإن الرجل رحل قبل أن يشتعل الحطب الجاف، وقبل أن تنطلق شرارة ثورة الجياع التى ظن أن بروفتها كانت فى 11 نوفمبر من العام 2016.