تعتبر مسرحية «النجاة» إحدى تجارب الكاتب الكبير نجيب محفوظ عن مجموعته «تحت المظلة» التى ضمت مجموعة من مسرحيات الفصل الواحد ضمن محاولاته القليلة بالكتابة للمسرح خلال فترة الستنينات، احتوت مجموعة تحت المظلة على مسرحيات «التركة»، «يميت ويحيى»، ثم «النجاة» كتب محفوظ هذه المسرحيات فى ظرف سياسى صعب مرت به مصر بعد هزيمة 67 فجاءت كتاباته متأثرة بحالة الإحباط واليأس الكبير الذى عاشته مصر تلك الفترة، لكن هذه الأجواء المحيطة بظروف كتابة النص المسرحي، لم تمنع المخرج الشاب محمود سيد من إعادة قراءته وتقديمه اليوم فى قالب فنى جديد للغاية، متجاوز الشكل المسرحى المعتاد فى مصر. يستعد محمود سيد فى تأسيس فرقته المستقلة تحت اسم «نمط» والتى تسعى بالفعل إلى ايجاد نمط آخر فى التعبير الفني، نمط ربما لم نعتد عليه فى مصر، اللهم إلا فى بعض التجارب الفردية المقبلة من الخارج عبر مهرجانات دولية متفرقة، لكن لم يتجرأ مخرج مسرحى مصرى على خوض تجربة تقديم عمل داخل شقة سكنية بإحدى عمارات حى الدقى، ودعوة الجمهور داخل تلك الشقة الحقيقية لمشاهدة ومتابعة أحداث العرض من زوايا وغرف المنزل، تجربة بديعة ممتعة تبعث على الدهشة والإثارة والفضول للمتابعة بالسعى الحثيث للحجز والفوز بحضور العرض، الذى قدم على مدار ستة أيام متواصلة من يوم 17 وحتى يوم 22 مارس الجارى، قبل صعود الأدراج ومع تزامن دخول الجمهور من مدخل العمارة السكنية، يقف المخرج منبها على الجميع بغلق التليفونات ومنحهم الحرية فى مشاهدة العمل من زوايا مختلفة ومتابعة الممثلين كما يشاءون طوال أحداث العرض، ثم تبدأ المغامرة بدخول هذه الشقة السكنية التى تغلق ابوابها على تجربة مسرحية شديدة الحميمية بين الأبطال والحاضرين. ضمن أحداث «النجاة» تجمع رجل غريب بامرأة مريبة هبطت عليه من السماء كى تحتمى داخل شقته من شخص يطاردها، والذى لا نعلم من هو زوجها حبيبها هى لا تفصح عن الحقيقة، وتظل فى هذا الوضع المريب مع الرجل الذى تجمعهما حالة من الغضب والخوف والشجار ثم تنتهى هذه العداوة بممارسة الحب فى لحظات سريعة خاطفة، تتوالى الأحداث التى لم ندرك منها إلا القليل لكنها تمنحنا حالة من التأمل الكبير، رجل وحيد جمعه القدر بامرأة غامضة ثم تأتى رفيقته ساعية للكشف عن تلك المرأة التى تخبره بأن الشرطة تبحث عنها فى كل مكان، وتؤكد له أنها متشككة فى اختبائها داخل منزله، لم يشأ أن يروى لها ما حدث ويحاول التخلص منها ومن اسألتها المحرجة، استبدل المخرج الصديق فى مسرحية محفوظ الأصلية بصديقة ربما لما جذبه من شكل العلاقة التى تحمل الفضول والغيرة وهى من سمات النساء أكثر من الرجال استبدال ذكى أضاف بعدا آخر على العمل. صدفة جمعت غريبين أدت إلى نشأة علاقة حميمية بينهما وانتقلت هذه الحميمية للجمهور، حيث التقى هذا الجمهور الغريب داخل هذا المنزل ليعيش ويتورط فى نفس اجواء التجربة، وكأنه جزء لا يتجزأ منها، شكل جديد من المسرح يسعى المخرج محمود سيد العائد من انجلترا الى تنفيذه واطلاقه فى مصر، ليفتح لنا أفق آخر من التعبير الفنى برؤية مختلفة، تمنح الجمهور صفة المراقب والمتلصص، الذى تحولت مشاهدته إلى حالة من التجسس على تلك العلاقة غير المفهومة بين الرجل والمرأة والعشيقة، خلال ساعة كاملة يتحول ويتغير شكل المشاهدة المسرحية لتصبح العيون مراقبة وكأنها كاميرا سينما فى «لوكيشن» تصوير استطاع المخرج بمهارة واحتراف لتحويل الحالة المسرحية إلى فيلم سينمائى حى، بدلا من أن تتابعه فى قاعة سينما تابعته فى تلاحم تام مع ابطاله وكأنك تحولت إلى مصور يرصد أحداث العرض. كتب نجيب محفوظ «النجاة» متأثرا بجراح هزيمة 67 فكان العمل أقرب إلى حالة من اليأس والإحباط حتى أنه على لسان البطلة فى النص الأصلى قال.. «فى حالات اليأس يفزع القلب إلى زمن الأساطير»، تجسد الوطن فى هذه المرأة التى منحت جسدها لرجل غريب لا تعرفه فى علاقة مريبة غامضة ثم تتصل بحبيبها لتخبره بأنها لم تخنه حتى الوقت الأخير وفى النهاية تقرر الخلاص من هذا العالم بالانتحار، أعاد محمود بفريقه «نمط» قراءة النص علينا فى هذا القالب الحميمى الجديد، تخلى عن اللغة العربية الفصحى وهو ما أسهم بشكل أكبر فى الاقتراب من الجمهور، وبجانب ما حققته هذه الحميمية فى الرؤية والمشاهدة من متعة وإثارة وتوحد مع أحداث العمل إلا أن هذا الشكل ايضا يعد مثالا حيا لما نعيشه اليوم فى واقعنا المعاصر، حالة التلصص والتجسس من الجمهور على حياة خاصة لرجل أعزب يعيش مرة مع حبيبته التى خانها مع امرأة غريبة لا يعلم عنها شيئا سوى جمالها الذى لفت انتباهه وقرر استغلال انفراده بها، بممارسة الحب معها أكثر من مرة، حتى أنه كان يتحرش بجسدها مفتعلا الشجار كى يعيد ما بدأه من جديد، بين كل هذه العلاقات الخاصة جدا يسير الجمهور متجولا فى هذا المنزل ومتجسسا على حياة هذا الرجل لمتابعة ادق تفاصيلها وهو يفيق ويشرب القهوة، ثم فى لحظة أكثر ذاتية بدخوله المرحاض ثم غرفة نومه ثم دخول هذه السيدة عليه، ومتابعة تفاصيل العلاقة بينهما بدءا من حالة العداوة والشجار إلى الانتهاء بالحب والرقص والسكر ثم القرار بانتهاء تلك الحياة المعذبة التى تعيشها هذه السيدة بالموت، قد تناسب قراءة العمل اليوم فى حالة التشوش الذهنى والعاطفى التى نعيشها خاصة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعى التى اصبحت أكثر تلصصا وانتهاكا لحياة الآخرين، بجانب العمق الفكرى الذى قصده محفوظ من مسرحيته «النجاة» فى وقتها ربما لايزال العرض يحمل نفس العمق حتى ولو أردنا تطويعه على ظروف حياتنا اليوم مما نعيشه من ظروف قاسية وأحداث عبثية وغير منطقية وسعى الكثيرون لإنهاء حياتهم بلا تفكير لمجرد شعورهم باليأس والإحباط الشديد، إلى جانب انعكاس اشكال النهايات التى اصبحنا نعيشها فى زماننا الحالى من نهاية الخصوصية، وهو الشكل المسرحى الأقرب لحالة الواقع العامة اليوم حيث أصبح المسرح انعكاسا لانتهاك خصوصيتنا ثم تعددت مستويات النهاية بالعرض فى نهاية علاقته بحبيبته ونهاية علاقتها بحبيبها وبالحياة نفسها بينما يظل الرجل حتى النهاية ساعيا إلى «النجاة»! خضع الممثلون إلى تدريب وضغط نفسى كبير لخروج التجربة بشكل لائق يليق بحميميتها وخصوصيتها، بكل ما تحمله هذه التجربة من استثناء كان لابد أن يدرس المخرج وممثلوه كيفية خروجها عن طريق دراسة خطوط حركة الممثلين واتزانها مع حركة الجمهور، وبالتالى راعى فى اختياره موقع يسمح بفتح مساحات لراحة الجمهور فى الحركة وللدخول والخروج من أكثر من زاوية لمتابعة احداث العرض، اختلطت انفاس الممثلين بالحاضرين، هذا الاختلاط والالتصاق بالممثلين تطلب مهارة وحرفة عالية فى الأداء الذى كان لابد أن يراعى فيه الممثلون وبدقة شديدة عدم وجود أحد بالمكان وكأنهم فى وحدة تامة كان على رأس الالتزام بهذه الحرفة العالية سارة خليل التى لعبت دور المرأة الغامضة المريبة صاحبة الجريمة غير المعروفة بمهارة كبيرة لعبت سارة شخصية تلك المرأة الغامضة المعذبة التى تخفى أشياء خطيرة لا نعلم عنها شيئا، لكنها تسعى لأن تعيش هذه اللحظة السعيدة التى جمعتها بهذا الغريب حتى تتناسى ما بداخلها بإحباط وألم اتقنت سارة اللعب على المشاعر الداخلية والخارجية لهذه السيدة، شاركتها فى حالة التمثيل السينمائى منى سليمان صاحبة الوجه المعبر التى تمكنت أيضا من أداء دور الحبيبة الغيورة المتشككة الساعية لكشف خيانة حبيبها، ثم عمرو جمال الذى تطور أداؤه بشكل ملحوظ فى هذا العمل مقارنة بالعمل السابق «اوضة نومى» كان أكثر وعيا بحالة العرض مما ساهم فى ضبط ايقاع الصراع بينه وبين المرأة المجهولة.. «النجاة» تجربة مسرحية استثنائية تستحق الإشادة والدعم والاستمرار.