عندما ارتجف قلب بيروت يوم الرابع من شهر اب / أغسطس عند الساعة السادسة وثمانى دقائق مساء، أحس به كل العالم، فارتدادات انفجار المرفأ وصلت لكل الدول وكل الجنسيات بأديانها وعرقياتها ومعتقداتها المختلفة، وشنت حملة تعاطف دولية سببها المشهد الدامى فى شوارع هذه المدينة الجميلة، وربما لعبت الصورة النمطية لهذه العاصمة والعالقة بالأذهان بأنها مدينة الحب والفرح والسهر والأزياء والمقاومة والأفكار التحررية دورا كبيرا، فعم الغضب الأليم والدامى قلوب الجميع. مئتا شخص من جنسيات مختلفة غيروا أماكن إقامتهم وانتقلوا إلى السماء كضحايا الفساد والإهمال، وأكثر من ستة آلاف جرحوا وتلونت أجسادهم بالدماء ووشمت بندوب لن تمحى، وأكثر من ثلاثمائة ألف شخص باتوا بلا مأوى بعد تدمر منازلهم وممتلكاتهم، وعشرات آلاف آخرون سيظلون لفترة طويلة جدا يعانون من أثار ما حدث بعد الرعب الذى داهمهم والاحباء الذين فقدوهم. «بيروتشيما» مجموعة قصصية فيها الكثير من الألم، فيها حكايا بعض ممن قضوا، وبعض من بقوا، حكايا سيطول الحديث عنها خلال السنوات المقبلة، بعض القصص مستمدة من الواقع، من خلال معرفة شخصية أو من متابعات دقيقة طيلة الفترة الماضية، لعل هذه الكلمات تكون دليلا ولو بسيطا على حجم الألم الذى يعتصر القلوب.
وقف على الرصيف المقابل للمرفأ بعيون غارقة بالدموع وبيده وردة بيضاء، اعتاد الوقوف هنا مقابل عنبر الموت منذ اليوم الأول للكارثة، وضع وردة بيضاء على الحافة لتنضم إلى عشرات من مثيلاتها سبقنها وذبلن، فقد مرت أيام كثيرة على رحيل ريتا، حبيبته وخطيبته التى غادرت مع من غادروا هذه الدنيا من ضحايا الانفجار الذى هز بيروت باكملها، أحس بيد تربت على كتفه وصوت يناديه: سليم... سليم، التفت وراءه ليجد أحد أصدقاء حبيبته الراحلة وهو زميلها فى فوج الاطفاء بمدينة بيروت، وجده دامع العينين هو الآخر. - سليم: أهلا طارق، هل توفى أحد من أقربائك أنت أيضا فى الانفجار؟ - طارق: أهلا سليم كيفك؟ لا أبدا أنا هنا لأكلمك وازيح هما كبيرا عن كاهلي، عرفت من الشباب فى الدفاع المدنى انك تأتى كل يوم إلى هنا. - سليم: تفضل أنت اخ عزيز وكانت المرحومة تحترمك وتحبك وتعتبرك من افضل الزملاء، هل نسيت انها اصرت بانك ستكون الاشبين وزوجتك الاشبينة فى حفل الزفاف؟ - طارق: طبعا لم أنس أبدا وهذا الأمر ضمن الامور التى تخنقنى أيضا، فيوم الانفجار كانت ريتا قد اتصلت بى وطلبت منى أن أحل مكانها بفترة عملها بمركز الدفاع المدني، وكان من المفترض أن اصل المركز عند الساعة الخامسة حتى تذهب للقائك لتختارا النواقص المتبقية للشقة كما قالت لي، لكنى تأخرت بسبب زحمة السير الخانقة ووصلت إلى المركز عند الساعة الخامسة والنصف، وعندما سألت الزملاء عنها قالوا لى أنها ذهبت بمهمة عاجلة إلى المرفا منذ خمس دقائق مع فريق الاطفاء بسبب الاشتباه بحريق بأحد العنابر بعد رصد دخان متصاعد منه، وبعد نصف ساعة او اكتر قليلا حصلت الكارثة ورحلت ريتا ورحل معها كل الزملاء الذين كلفوا بالمهمة. صمت سليم ونظر إلى طارق الذى أسند ظهره إلى الحافة وبان المرفا المدمر خلفه، وفكر أن الشاب الواقف امامه يلوم نفسه على رحيل حبيبته وهو يعلم جيدا بان حياته كانت ستكون ثمنا لحياتها، أى حياة مقابل حياة وروح مقابل روح، وفكر كيف كانت ريتا ستفكر لو وصل طارق بالوقت المناسب وذهب هو مكانها بالمهمة الاخيرة؟ ولأنه كان يعرف ريتا جيدا تيقن انها كانت ستلوم نفسها هى الاخرى وستكون مدمرة النفس والروح، فريتا رغم شجاعتها الكبيرة الا انها صاحبة قلب طفل صغير، وربما أتى تطوعها فى الدفاع المدنى التابع لفوج الاطفاء منذ سنوات من أسباب حبها للحياة ومساعدة الاخرين، حتى انه عندما تقدم لخطوبتها وضعت شرطا واحدا فقط وهو أن تظل ضمن فرق المتطوعين بعد الزواج وهو بطبيعة الحال وافقها لانه يعلم بان الشرط نابع من اعماقها. تعانق الشابان طويلا، وبعد صمت لدقائق قال سليم: طارق لا لوم عليك ابدا، فما حدث قد حدث وهو مكتوب ولا بد له من الحصول مهما حاولنا تبديل الظروف والمواعيد، وربما تأخرك هبة لك من الله ولريتا ايضا، لك لتكمل حياتك وتبقى مع طفليك وتراهما يكبران امام اعينك، ولريتا حتى لا تشعر بالذنب طيلة حياتها، فاذهب يا صاحبى واكمل حياتك وان كنت تحب ريتا فعلا اكملها فرحا بكل لحظاتها، بكى طارق بحرقة كبيرة ثم ودعا بعضهما وعد صادق بالتواصل الدائم، وبقى سليم على الرصيف مكانه سارحا. فكر سليم باحواله لو لم ترحل ريتا، كانا قد اتفقا على موعد الزواج، بعد شهر ونصف، كان ترتيب الميعاد صعبا بسبب حاجتهما للوقت لاستكمال تجهيز الشقة وفترة لقضاء اجازة جميلة قبل أن يحل موعد فتح المدارس بسبب عملها كمدرسة، وكان دوامها فى المركز يوم رحيلها اليوم الأخير قبل الاجازة التى طلبتها لتتفرغ للشقة التى اشتروها فى إحدى ضواحى بيروت، كانا قد اشتريا شقة صغيرة بعيدة قليلا عن وسط العاصمة بسبب سعرها الاقل عن اسعار الشقق داخل بيروت، كانت الشقة الصغيرة فى المساحة كبيرة باحلام الشابين، فهى تعمل مدرسة باحدى المدارس الخاصة وهو بشركة للاستيراد والتصدير، علاقتهما ممتدة من زمن طويل بدات منذ ايام المرحلة الابتدائية، كانا جارين، كانا رفيقين، لاحق أحدهم الاخر بكل لحظة من لحظات حياته، عندما صارحها بحبه فى السنة الجامعية الأولى ضحكت، وسألته كيف استطاع السكوت كل هذه المدة وصارحته بانها تعشقه أيضا وتعاهدا وقتها على البقاء معا إلى أن أتت السنة الجامعية الاخيرة فتقدم لخطبتها وبدءا فعلا بتأسيس الحياة الحلم. كانت ريتا مولعة بالورود البيضاء وكان هو يأتى لها بواحدة يوميا أينما كانت، ولو انشغل عنها ولم يأت لها بها يقوم بجلب اثنتين فى اليوم التالى، فى عملها بالمدرسة كانت محبوبة من طلابها وزملائها على حد سواء، كانت تملأ أى مكان تتواجد فيه بالنشاط والفرح والروح الايجابية، ورغم رقتها الواضحة الا انها تطوعت فى فريق الاسعاف بالدفاع المدنى وخضعت لعدد من الدورات القاسية الخاصة بالانقاذ والاسعاف وتم نقلها إلى مركز بمنطقة بيروت بناء على طلبها، كانت الفتاة الوحيدة بين افراد الطاقم المؤلف من عشرة افراد، الجميع احبها وهى احبتهم حتى انها احيانا تهدد سليم بهم مازحة وتقول له بانها ستأتى باشقائها إن قام بإغضابها وبالطبع قاصدة افراد الطاقم وربما الأمر عائد لكونها الابنة الوحيدة فى عائلتها ولا اشقاء لها. يوم الانفجار كان سليم ينتظرها لاستكمال شراء بعض نواقص الشقة، وقالت له بانها رتبت مع احد زملائها ليحل مكانها وستوافيه عند السادسة إلى احد المحلات التجارية فى بيروت، لكنها طلبت بمهمة عاجلة فى المرفأ وقامت بالاتصال به بمكالمة فيديو قبيل وصولها راجية منه ألا يغضب لانها لم تستطع الوصول فى الموعد وأنها ستتاخر قليلا لانجاز المهمة، وكانت آخر لقطة رآها فيها ارتفاع الدخان بشكل كثيف وسماعه لاصوات غير مفهومة إلى أن انقطع الاتصال، وما هى الا دقائق قليلة حتى هز الانفجار بيروت وأصيب وقتها سليم بجراح من الزجاج المتطاير من المتجر الذى كان قد وصله، ورغم الوهلة الكبيرة التى أصابته الا انه فكر فورا بريتا فالجميع كان يصرخ بأن الانفجار والدخان كان مصدرهما من ناحية المرفأ. لطالما أرادت ريتا أن تكون متميزة وتقوم بما يراه البعض صعب القيام به، ورحيلها كان كذلك، فالمجموعة التى كانت معها كانت المجموعة الاولى من الضحايا، والمجموعة الاخيرة التى اعلن عن رحيلها بسبب شدة الانفجار وتطايرهم فى كل مكان، ظل سليم لاكثر من خمسة عشر يوما يلاحق أسماء القتلى والمصابين لعله يعثر على حبيبته، الا أن محاولاته كانت فاشلة دائما، وكل ما عاد من ريتا بعض البقايا وقطع من بذتها الخاصة بالدفاع المدني، ولولا تقنية التعرف على الرفاة بواسطة «الدى أن اي» لظلت فى عداد المفقودين ولم يتمكن مع اهلها واصدقائها وتلامذتها وزملائها من اقامة حفل الوداع الاخير لها فى بلدتها الجبلية التى طالما احبتها واحبت اهلها، وها هى تعود اليهم لتبقى بينهم طوال الوقت. لا يعرف سليم شيئا عن الغد او اليوم الذى يليه، لم يعد قادرا على التفكير او التخطيط، شقته وريتا، شقة الحلم مقفلة منذ اليوم المشؤوم ولم يطأ عتبتها أبدا، حاول مرارا لكنه لم يستطع أبدا كان يحس بانقباض كبير عند وصوله امام المبنى الذى تقع فيه، وفقد عمله بعد اقفال الشركة التى كان يعمل بها بعد تدمر مقرها بسبب الانفجار وعدم قدرة صاحبها على ترميم المقر لتضرر المبنى بالكامل وبالتالى أعلن افلاسه وغادر البلد نهائيا، وأصبح حاله كحال آلاف الشبان اللبنانيين الذين فقدوا ارواح احبائهم ومستقبلهم معا، ولا يزال يذهب بوردته البيضاء كل يوم إلى الرصيف مقابل المرفا، فأمران فقط يفكر بهما يوميا، الذهاب بالوردة البيضاء إلى حبيبته والتفكير بالدقائق الخمس التى فصلت ريتا عن استكمال حياتها وبقائها قربه او رحيلها وتركه وحيدا.
لطالما أرادت ريتا أن تكون متميزة وتقوم بما يراه البعض صعب القيام به فكر سليم باحواله لو لم ترحل ريتا، كانا قد اتفقا على موعد الزواج، بعد شهر ونصف، كان ترتيب الميعاد صعبا بسبب حاجتهما للوقت لاستكمال تجهيز الشقة وفترة لقضاء اجازة جميلة