تمر هذه الأيام الذكرى السابعة عشرة على رحيل رائد الاستشراق فى العالم العربى المفكر الفلسطينى إدوارد سعيد المولود فى القدس فى الأول من نوفمبر عام 1935، ورحل عن دنيانا فى 25 سبتمبر فى مدينة نيويوركالأمريكية. فى مؤتمر المستشرقين الذى عقد فى باريس فى سنة 1974، تم الاتفاق على التوقف عن استخدام مصطلح « الاستشراق»، بعد ملاحظة أنه كان يتسم بقدر غير قليل من الغموض والتعميم إلى جانب أنه نسبي، فنحن نقول عن الشيء إنه يقع شرقاً أو غرباً بالنسبة لموقع ما. وبالرغم من أن مصطلحى «الاستشراق» و«مستشرق» ما زالا مستخدمين فى العديد من المؤسسات الأكاديمية والأدبيات التى تتناول الموضوع نجد المستشرق» مكسيم رودنسون» يقول: إن كلمة الاستشراق لم تعد تعنى شيئاً، كما يرى أنه لا يوجد» شرق» وإنما توجد شعوب ومجتمعات وثقافات تميزها،وعليه لا يوجد «استشراق» وإنما أنظمة علمية لها موضوعاتها وإشكالياتها النوعية مثل علم الاجتماع والاقتصاد السياسى والألسنية والأنثروبولوجيا وغيرها، ويخلص إلى أن المصطلح متناقض مع حقائق الواقع ولا تفهم منه شيئاً. فى العام 1978صدر كتاب «الاستشراق» للناقد والأكاديمى والمفكر الفلسطينى الراحل إدوارد سعيد، ونقله إلى العربية الناقد السورى المقيم فى لندن كمال أبو ديب، ثم أعقبه ترجمات عديدة إلى لغات عالمية مختلفة. ويعنى مصطلح الاستشراق بالنسبة لسعيد عدة أمور يعتمد بعضها على بعض، وتبدو غير مترابطة يستخلص منها أيسر التعريفات المقبولة، وهو أن الاستشراق مبحث أكاديمي، والمستشرق كل من يعمل بالتدريس أو الكتابة أو إجراء البحوث فى موضوعات خاصة بالشرق سواء كان ذلك فى مجال الأنثروبولوجيا أو علم الاجتماع أو فقه اللغة، وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة.. والاستشراق إذا وصف لهذا العمل.ويعترف سعيد بأن المصطلح لم يعد يتمتع بالحظوة القديمة بعد أن أصبح المتخصصون يفضلون استخدام مصطلح» الدراسات الشرقية» أو مصطلح « دراسات المناطق»،مضيفاً أن للاستشراق معنى أعم وأشمل يتصل بهذه التقاليد الأكاديمية، فالاستشراق أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودى بين ما يسمى « الشرق»، وما يسمى فى معظم الأحيان «الغرب». وعلى مر السنوات كان الناس وصناع السياسة فى الولاياتالمتحدة كثيراً ما يستخدمون ما يطلق عليه المؤرخ مايكل هينت Michel Hunt تراتيبية عرقية فى التعامل مع ما اصطلح على تسميته ب«العالم الثالث» منذ 1900 كان هنت يقول: إن العرقية الأنجلو ساكسونية والداروينية الاجتماعية قد تفاعلت مع العقل الجمعى الأمريكى لتوليد خريطة ذهنية قوية،متوقع أن تتحكم القوى المتحضرة فيها – الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية – فى جماعات دنيا من المتخلفين وربما البدائيين من الآسيويين واللاتين والهنود الأمريكيين والأفارقة . وتساءل إدوارد سعيد عن سبب ذلك، واستنادًا إلى التاريخ الفكرى والنقد الأدبى والفيلولوجيا السياسية بين كيف أن المسئولين البريطانيين فى القرن العشرين كانوا يتبنون الاستشراق لخدمة أغراضهم تجعلهم ينظرون إلى الآسيويين والأفارقة باعتبارهم متفسخين ومغايرين وأقل شأنا، وهى الرؤية نفسها التى استخدمها وايت هول Whithall لعقلنة طموحات الإمبريالية الخاصة،من شبه القارة الهندية إلى شواطئ النيل، وبالنسبة للمستشرقين البريطانيين فإن الاستبداد العثمانى والظلامية الإسلامية والدونية العرقية العربية.. كل ذلك أسهم فى إنتاج ثقافة متخلفة، كانت فى حاجة ماسة إلى وصاية أنجلوساكسونية،ومع ضعف قوة بريطانيا وتعاظم قوة أمريكا بعد عام 1945 حدث شيء ما أشبه باستشراق « إدوارد سعيد» ليشكل دون وعى توجهات الولاياتالمتحدة الشعبية وسياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط. الاستشراق الذى لا ينكر فضله فى النقد وتحريك السواكن. وبعد مرور أربعين عاما على صدور كتاب الاستشراق، و15 عامًا على رحيل مؤلفه، ماذا عن مستقبل الاستشراق؟ كتابُ الإستِشراق: الشجاعة النقدية فى مواجهة المؤسسة الاستشراقية يرى الدكتور لونيس بن على أستاذ محاضر فى النقد الأدبى والأدب المُقارن/ جامعة بجاية (الجزائر) أنّ الخطابَ المعرفيّ عند إدوارد سعِيد، سواء فى نقده لخطاب الاستشراق، أو فى نقده الأدبى لكلاسيكيات الأدب الأوروبي، هو خطابٌ عابِر للأزمنة، وعابِر للجغرافيات. وإذا حاولنا تفسير سرّ هذه الطاقة التى يتمتع بها خطابه المعرفى فإنّنا نجد بأنّ «الهاجس الإنساني» هو الذى يختفى وراء هذه الحيوية فى فكره؛ بمعنى آخر، لقد كتب إدوارد سعيد انطلاقاً من رؤية إنسانوية، دافع فيها عن الإنسان المقهور ضد أجهزة الهيمنة التاريخية، كما انتقد المراكز الإمبريالية فى العالم الغربي، بفضح تناقضاتها الصارخة فى مرجعياتها الإنسانوية التقليدية، كما أسس لها فلاسفة النهضة والتنوير، وما يقابلها من هتك لكرامة الإنسان باستعباده وخلق عالم مبنى على لامساواة جذرية، عالم ممزق ومشتت ومنهك بفعل الحركات الاستعمارية تارة وبفعل الأنظمة النازية والفاشية التى أدخلت العالم فى حربين مدمرتين، وصولًا إلى الإمبريالية الاقتصادية والثقافية التى تعصف بأركان الثقافات المحلية باسم عولمة شاملة بدأت كتصور اقتصادى لتبلغ الآن مبلغًا من الخطورة أدت إلى إعادة صياغة الإنسان وإعادة هندسة وجوده. اتسمت كتابات إدوارد سعيد الغزيرة والمتنوعة بقدر كبير من المسئولية الأخلاقية إزاء مشكلات الإنسان، فناقش أسئلة الهوية، والتمثيل، والثقافة، والخطاب، والعلمانية، والمثقف، والقضية الفلسطينية...أى أنّه اشتغل على سؤال الإنسان الذى يتطلع إلى التحرر من المخيلات الكولونيالية والإمبريالية. لم ينقد سعيد الاستشراق – وهو الخطأ الذى يقع فيه الكثيرون – بل انتقد خطاب الاستشراق؛ فلم يتوقف نقده عند إبراز الآليات الخطابية والبنيات المعرفية للاستشراق، بل فضح تحيّز المعرفة/الخطاب للمشروعين الكولونيالى والإمبريالي. لقد نبّهنا إدوارد سعيد، من خلال كتابه الاستشراق، إلى أنّ جوهر الاستشراق ليس هو دراسة الشرق، بل هو إعادة صناعته من جديد، من هنا جاء مصطلح الشرقنة ليفضح الآليات الخطابية للاستشراق، وهو بذلك قد عبّر عن رؤية نقدية عميقة. لقد كان أمام صورة مختلقة عن الشرق، تشكلت منذ قرون داخل المخيلة الأوروبية، فجاء الاستشراق ليضع هذه الصورة داخل نظام معرفى ومنهجى جدّ مُحكم. لا ننسى أنّ صورة سعيد، هى أيضا صورة المثقف النقدي، الذى دافع عن رؤية مقاومة للثقافة بشكل عام، فثقافات العالم الثالث معنية بصياغة مشاريع ثقافية مقاومة للهيمنة الغربية، فلن يكون إخراج المستعمر من الجغرافيات المنهوبة كافيًا لصناعة إنسان جديد، فالمقاومة ههنا تتخذ شكل التحرر من أصفاد نفسية وروحية وفكرية ما زالت تكبّل المجتمعات المستعمَرة كنوع من عقدة نقص إزاء الآخر. إنّ كتاب الاستشراق، على حد تعبير توماس بريسون، هو بمثابة التأسيس للحظة اتخاذ المثقفين العرب الكلمة لنقد المعارف التى أنتجها الأوروبيون. لكننا نضيف إلى هذا، أنّ هذا الكتاب هو بمثابة موقف سياسى شجاع إزاء المؤسسة الإمبريالية الغربية، وإزاء الواقع العربى أيضًا. لقد كان سعيد مثقفا شجاعا وهو يخوض معاركه الفكرية والسياسية ضد الغرب فى عقر داره، وكم نحن فى أمسّ الحاجة إلى هذه الروح الشجاعة اليوم. أما عميد المترجمين العرب الدكتور محمد عنانى أستاذ الأدب الإنجليزى المتفرغ بجامعة القاهرة والذى قدم ترجمة حديثة لكتاب الاستشراق فى نسخته الصادرة عن دار بنجوين العالمية عام 1995، وظهرت الترجمة عام 2006 بالقاهرة، فيرى أن إدوارد سعيد أسس ما يسمى بالنقد الثقافى، وقد مهد كتاب الاستشراق لما أصبح يسمى بنقد الاستعمار ومن أهم ظواهره قيام أبناء البلدان التى تحررت من الاستعمار بإعادة النظرفى التركة الاستعمارية، وهو ما يتجلى فى آدابهم وما أتى به من مجالات جديدة للدراسات النقدية،إذ انتشرت فى بلدان العالم الثالث الدراسات التى تناقش المواقف الثقافية الكامنة فى نظرة أبناء هذه البلدان إلى ذواتهم، وهى نظرة دونية، ترجع إلى ما ورثه هؤلاء من التركة الاستعمارية.