عند دخول القطار المحطة، احتوتنى رعشة من حدوث بعض المفاجآت، فى تلك الزيارة، فى كل مرة أتوقع أشياء ولا تحدث، ربما كان عقلى الباطن هو من زرع تلك التخيلات الغريبة فى مكنون ذاتي، عجلات القطار تسارع الوقت فى الوصول إلى تلك المحطة العتيقة التى إنشائها الإحلال، منذ زمن بعيد، وعليها جرت أحداث عدة لكل صنوف البشر، فهى ملتقى الشارد والوارد على مر عمرها الطويل، حتى أنا لم أسلم من ذكرياتها الحلوة والمرة، اعترتنى بسمة خجولة بين ركاب القطر حين تذكرت تلك الفتاة التى كانت تنتظرنى كل صباح لتصاحبنى إلى الجامعة، كم حدثتنى عن أمنيات لم يتحقق منها شيء، كأنها حكايات جدتي، فى دهليز بيتنا القديم على حافة الترعة عند أطراف قريتنا، وجدى الصياد الذى كان يبحر بقاربه الصغير فيها كل بكور مسترسلا فى تلاوة آيات القرآن مستمتعا بنسمات الفجر فوق صفحة الماء العطر برائحة تلك الحقول المتمددة على الجانبين، وابتسامته العائدة وهو يجمل على كتفة تلك الجربة التى صنعها من بقايا الشباك القديمة ليضع فيها حصاد الرزق السمكي، فيجلس بيننا،صغار البيت ويحكى عن تلك الأماكن التى يحرص على الخوض فيها كل صباح حيث الرزق الوفير، فتدخل جدتى علينا بالفطور اللذيذ، وأمد نظرى خارج نافذة القطار لأرى قريتنا على مرمى النظر وقد تغيرت ملامحها، فقد علت مبانيها وتلونت مآذنها، وأصبحت بلا رحيق، تبلدت مشاعر ساكنيها، مثل تلك الحوائط الصلدة البليدة الرطبة فى شتائها، والحارقة صيفها والطاردة لمن فيها إلى فيافى الوديان الخشنة فى درب الصحارى البعيدة او بلاد الجليد وتستقبل الأبناء فى أكفان ملونة كل مساء، صوت الباعة الجائلين فى القطار متضارب ومتناقض فى أشكاله وألوانه، الأطفال تطلق الأنظار نحوهم ربما يرق قلب مرافقهم ويبتاع له تلك اللعبة الصغيرة الزهيدة فى ثمنها او تلك الحلوى الحمضية والسمسمية من نتاج تلك المدن العتيقة فى الدلتا، وفى ركن من أركان العربة وجدته شارد فى نظراته باكية عيناه، حيث تحجرت تلك الدموع على خديه، ملابسه ممزقة كروحه البريئة، يتلصص النظرات إلى هؤلاء الأطفال فوق المقاعد او على أرجل آبائهم، وجهه البريء اختفى خلف تلك المقاعد المكتظة بالركاب، هرول بعيدا عندما لمح محصل القطار فى طريقه، لمحته يحاول الاختفاء خلف البواب القطار، المحصل يفحص التذكرة ويمضى كنت على وشك ان أسأله عن ذكرياته فى هذا القطار، فنظر لى وتذكرنى حين سقط من القطار من زمن بعيد على ذات المحطة وأنا فى القطار السريع، ابتسم ومضي، فتحسست كتفي، الذى بات يؤلمنى كلما تذكرت منظر نفسى وانأ اسقط من القطار على الرصيف وصرخة من حولي، وقفت لأخرج من تلك الأيام التى ولت وولى احلى ما فيها، على رصيف المحطة نظرت فتاتى تصطحب أطفالها وتسرع لتركب القطار حال نزولى نظرت إليها وابتسمت وهى على استحياء تحاول الابتسام.