يعد كتاب رسالة الغفران للمعرى من أمهات كتب التراث العربى فى أنصع صفحاته، وتعد طبعة دار المعارف من أدق الطبعات وقامت بتحقيقها الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة القرويين بالمغرب. و الرسالة كتاب وضعه أبوالعلاء فى أثناء عزلته رداً على رسالة بعثت إليه من شيخ حلبى من أهل الأدب والرواية يدعى على بن منصور ويعرف بابن القارح، وفيها يشكو أمره إليه، ويطلعه على بعض أحواله، ثم يعرض لأشخاص من الزنادقة والملاحدة أو المتهمين بدينهم فيتحدث عنهم ويذكر شيئاً من أخبارهم ثم يسأله فى ختامها أن يجيب عليها، فهذه الرسالة لم تكن لتوضع فى تاريخ الأدب العربى لو لم تكن سبباً لخلق رسالة الغفران، فإن الفيلسوف الضرير لم يشأ أن يردّ على سائله إلا بعدما صدّر جوابه بقصة رائعة جرت حوادثها فى موقف الحشر، فالجنة فالجحيم، ووسمها برسالة الغفران لكثرة ما تردد فيها ذكر الغفران ومشتقاته وما ورد فى معناه، وسؤال الشاعر الذى كتبت له النجاة: بِمَ غفر لك. وهذه الرسالة قسمان، الأول: رواية الغفران، والثانى: الرد على ابن القارح. وقد صدر أبوالعلاء هذه الرسالة بوصف لرسالة ابن القارح وقد قسمت رواية الغفران على ستة فصول: الفصل الأول - فى الجنة، الفصل الثانى - موقف الحشر، الفصل الثالث - عودة إلى ذكر الجنة، الفصل الرابع - جنة العفاريت، الفصل الخامس - الجحيم، الفصل السادس - العودة إلى الجنة. بغض النظر عن كون ابن القارح شخصية حقيقية واسمه على بن منصور الحلب أو كان كما قال عبدالله العلايلى (فى كتابه المعرى ذلك المجهول): «ابن القارح شخصية اخترعها أبوالعلاء المعرى، وتسمية البطل بالقارح دليل على اختيار مقصود فالقارح فى اللغة هو من الفعل قارح بمعنى خاصم وواجه والقارح هو المواجه». تعتبر رسالة الغفران لأبى العلاء من أعظم كتب التراث العربى النقدى ومن أهم وأجمل مؤلفات المعرى، وهى رسالة ذات طابع روائي، جعل المعرى من ابن القارح فيها بطلاً لرحلة خيالية» عجيبة يحاور فيها الأدباء والشعراء واللغويين فى العالم الآخر، وقد بدأها المعرى بمقدمة وصف فيها رسالة ابن القارح وأثرها الطيب فى نفسه فهى كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء ثم استرسل بخياله الجامح إلى بلوغ ابن القارح للسماء العليا بفضل كلماته الطيبة التى رفعته إلى الجنة فوصف حال ابن القارح هناك مطعماً الوصف بآيات قرآنية وأبيات شعرية يصف بها نعيم الجنة وقد استقى تلك الأوصاف من القرآن الكريم مستفيداً من معجزة الإسراء والمعراج، أما الأبيات الشعرية فقد شرحها وعلق عليها لغوياً وعروضياً وبلاغياً. ويتنقل ابن القارح فى الجنة ويلتقى ويحاور عدداً من الشعراء من مشاهير الأدب العربى منهم من غفر الله لهم بسبب أبيات قالوها كزهير وشعراء الجنة منهم زهير بن أبى سلمى والأعشى وعبيد بن الأبرص والنابغة الذبيانى ولبيد بن أبى ربيعة وحسان بن ثابت والنابغة الجعدى. ثم يوضح قصة دخوله للجنة مع «رضوان» خازن الجنة ويواصل مسامراته الأدبية مع من يلتقى بهم من شعراء وأدباء ثم يعود للجنة مجدداً ليلتقى عدداً من الشعراء يتحلقون حول مأدبة فى الجنة وينعمون بخيرات الجنة من طيور وحور عين ونعيم مقيم. ثم يمر وهو فى طريقه إلى النار بمدائن العفاريت فيحاور شعراء الجن مثل «أبوهدرش» ويلتقى حيوانات الجنة ويحاورها ويحاور الشاعر المسمى «الحطيئة». ثم يلتقى الشعراء من أهل النار ولا يتوان فى مسامرتهم وسؤالهم عن شعرهم وروايته ونقده ومنهم امرؤ القيس وعنترة بن شداد وبشار بن برد وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد والمهلهل والمرقش الأكبر والمرقش الأصغر والشنفرى وتأبط شراً وغيرهم. ثم يعود من جديد للجنة ونعيمها. تعد محاوارات ابن القارح مع الشعراء والأدباء واللغويين التى تخيلها المعرى فى العالم الآخر مصدراً مهماً من مصادر دراسة النقد الأدبى القديم حيث حوت تلك المسامرات والمحاورات مباحث نقدية مهمة وأساسية فى النقد الأدبى. ركز أبوالعلاء المعرى فى هذا الكتاب على إبراز ما أسماه النص المحورى للرسالة وذلك لإبراز غرضها الأساسى الذى يحدده بالتعبير عن نظرة للدين والأدب والحياة بأسلوب أدبى، ويركز أيضا على الجانب العقائدى فى الرسالة من خلال ربطها بعقيدة أبو العلاء المعرى وقد عرف بنقده بأسلوب ساخر يلمح به إلى حالة من عصره عن طريق أفعال الشخصيات أو المكان.