لا يفهم مفكر النظام أن الثورة ليست تحت قيادة موحدة ولا على قلب رجل واحد. وبالنسبة له، حتى الثورات ذات القيادة الموحدة مثل سعد زغلول فى 1919 فشلت لأن الجماهير دعمت الزعيم «النخبوى» مرة ثم انقسمت النخبة على نفسها فانفض عنها «الظهير الشعبى» الذى يحميها، وبات من السهل ضرب مشروعها. التحليل لطيف وصادق فى جوانب منه ولكنه غير صالح لكل زمان ومكان. يغرينا مفكر النظام دائما بالخضوع لتعبيرات رنانة وثنائيات نجاح وفشل مثالية، حتى تعجز عقولنا عن اختبار مسلمات يعيش بها حتى لا ينهار العالم فوق رأسه. قلنا فى مقال سابق، إن مفكر النظام هو من عوّده النظام على مدى ستين عامًا على استقبال كل ما يحدث من زاوية نظر أن هناك «نخبًا متعالية» و«شعبًا بسيطًا» لا يصدقها. وطالما ظل الفصل بين الفريقين ممكنا، طالما استمر النظام، واستمر كذلك المفكر فى التنظير وأكل العيش. أما وحالنا الآن، وحال العالم من حولنا، أن «النخب» لا تملك ترف الانعزال عن «الناس»، فالحدود تذوب بينهما غصبًا عن الاثنين. لا يملك الآن من يريد أن ينأى بنفسه عن «السياسة» و«الثورة» و«وجع القلب» أن يمنع عقله عن التفكير، وأن يمنع عواطفه عن الاشتعال. فما يجرى ببساطة يحاصره، إعلام يطارده، وانترنت يصطاده، وانتخابات دورية تجعل التصويت واجبا عليه فى النقابة والمجلس المحلى والبرلمان. وهذا أضعف الإيمان. أما من يشتغل بالسياسة والفكر والعلم والإعلام، فهو كذلك لا يملك ترف صياغة أوراقه على المكتب، ثم الانتقال بأفكاره لأولى الأمر المتنفذين لعلهم يأخذون بها. فالمتنفذ اليوم قد لا تجده فى وزارته أو فى موقعه غدا بسبب «الثورة»، وسيفتضح أمر ما كتبت إن آجلا أم عاجلا على يد «عيال ثورجية»، أو إعلاميين يبحثون عن سبق، أو ذات المسئول الذى كنت تظنه سترًا وغطاء فأراد أن ينقذ سمعته على حسابك. هكذا دارت الأيام، تقدّم الوعى والمعرفة والتكنولوجيا بما لا يستطيع أن يقيسه القابع فى أركان المؤسسات العفنة لدولة منهارة. ضف على هذا التقدم الذى بلغنا رغم أنفنا، خطاب ثورى أخلاقى حق وعدل نتحصن به، وضف عليهما معا جيلاً من العشرينيين والثلاثينيين لا يرى لنفسه مستقبلاً إلا لو تحررت بلاده من أسر ستين عامًا. هذه المحددات الثلاثة عامة: التقدم، الثورة، الكوادر الشابة. ولكنها كانت كافية لتشعل ثورة تبدأ الآن فى تلمس بداية طريقها وسط مناخات التشويه والقمع والقتل. الوحدة تحت هدف واحد كانت كفيلة بفتح الباب نحو هذا الطريق، لكن البديهى أن استمرارها كذلك مستحيل. وعلينا أن نتقبل ذلك حتى لا نصبح مثل مفكر النظام، نبكى على البيض الذى وضعناه كله فى سلة واحدة. سيظهر بيننا من يبدأون فى التنظيم والانتظام فى أحزاب سياسية، وكذلك من يبنون حركات فضفاضة أكثر لكن بها مساحة أيضا من التنظيم، وسيبقى هؤلاء الذين يكرهون فكرة التنظيم ويدعمون مبادرات جماعية تلقائية تثبت نجاحا ضخما حين تنزل على الأرض. سيبقى جهد الجميع فاعلا، وسيبقى تضامنهم وفق خطابهم الأخلاقى النبيل الحق والعدل هو رمانة الميزان عندما يختلط عليهم الأمر. أما مفكر النظام، فهو يا عينى، وقع بين مطرقة عقله القديم الذى أملى عليه طويلا مسلمات تتلاشى، وبين سندان الواقع الذى يسحق أسباب وجوده. فهذه الدولة التى كانت تصنع الحكومة والمعارضة تغنى «أنا مش عارفنى، أنا تهت منّى»، وهؤلاء المكتسحون الجدد للمؤسسات يغنون «أقول، ماقولش، أنا خايف أقول، أنا خايف»، وهو بينهما حائر فى استجلاب مزيد من التنظير يرضى هذا وذاك. نهاية تليق بعهد تغذّى فيه خيرة الناس على فتات أراذلهم، فصاروا أحط وأرذل.