حدث هذا معى ثلاث مرات.. كانت المرة الاولى قبل عشرين عاما وكنت وقتها فى آواخر الثلاثينيات من العمر وكانت هناك حفلة فى نقابة الصحفيين بمناسبة عيد الربيع وكانت إحدى جوائز الحفل رحلة عمرة شاملة جميع النفقات.. وفزت بالجائزة ولكنى سعيت إلى أن تسافر أمى - رحمة الله عليها - بدلا منى.. وقمت بالفعل باستخراج جواز سفر لها.. ولكن الجهة التى قدمت جائزة رحلة العمرة رفضت وقال المسئولون فيها: «إذا لم تسافر أنت فلن يسافر أحد بدلا منك».. واضطررت للاعتذار لوالدتى على وعد بأن تسافر هى على نفقتى فى أقرب فرصة.. وسافرت لاداء العمرة لاول مرة فى حياتى صيف 1992 وقال لى أحد رفاق الرحلة من كبار السن: «إن مجيئك إلى هنا هو استدعاء آلهى فأنت مطلوب حضورك بشخصك لزيارة بيت الله فى مكة وزيارة النبى صلى الله عليه وسلم فى المدينة».. وقد أسعدتنى هذه الكلمات سعادة بالغة.. كانت بداية الرحلة فى المدينةالمنورة.. وقتها لم تكن مجموعة الفنادق الفاخرة التى تحيط بالحرم النبوى الشريف قد أقيمت.. وكان المسجد النبوى وقتها على غير الصورة التى يبدو عليها الآن من توسعات تستوعب أعدادا مضعفة من المصلين داخله ولم تكن ساحة الحرم الخارجية مثل ما هى عليه الآن حيث جرى تغطية أرضياته بأنواع خاصة من الرخام الفاخر لا تمتص حرارة الشمس وجرى تزويد ساحته بمظلات ضخمة تفتح أذرعها الضخمة كهربائيا مع طلوع شمس الصباح لتظلل ساحة الحرم وتطوى تلك الأذرع ومظلاتها مع رفع أذان صلاة المغرب.. كان اهتمامى فى أول زيارة أن أرى منبر الرسول ومقامه وأن أصلى ركعتين هناك حيث قال سيدنا محمد «ما بين دارى ومنبرى روضة من رياض الجنة».. ثم دخلت من باب السلام مارا أمام قبر الرسول.. هناك ارتجف قلبى ولم أستطع أن أمنع دموعى وأنا أسلم عليه وعلى الصحابة الأبرار أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما.. كنت حريصا طوال إقامتى بالمدينة على أداء الصلوات الخمس فى المسجد النبوى حيث الصلاة فيه بألف صلاة فى غيره من المساجد.. وبعد أيام فى المدينة نويت العمرة لله وأحرمت من منطقة «آبار على» جنوبالمدينةالمنورة وسافرت إلى مكة على مسافة نحو 470 كيلومتراً جنوبا.. وبمجرد أن رأيت الكعبة وكسوتها السوداء اهتزت نفسى وارتجف قلبى.. ولم يكن على لسانى سوى لا إله إلا الله محمد رسول الله.. هنا بيت الله الحرام أول بيت وضع للناس.. وإلى هذا المكان جاء أبو الأنبياء إبراهيم ومعه زوجته المصرية السيدة هاجر وابنه إسماعيل أبو العرب وأقام إبراهيم البيت الحرام ثم ترك زوجته وابنه هناك وقال كما جاء فى القرآن الكريم: «ربنا إنى اسكنت من ذريتى بواد غير ذى ذرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم».. آسرت الكعبة فى قلبى وطفت بها وصليت فيها ثم سعيت بين الصفا والمروة.. ونويت أمام بيت الله العودة حاجا.. فشاء سبحانه وتعالى بعد عشرين عاما أن أعود واعتمر مرة أخرى ثم أؤدى فريضة الحج وبأقل قدر من النفقات المادية.. وتلك قصة تستحق أن تروى.